الفنون جنون.. يقولون إن هذا المصطلح أول ما ظهر في فرنسا وتُرجم حرفيًا للغات العالم، وكان بمعناه الإيجابي يُقصد به الفنون التي ترتبط بالجمال، وإلى يومنا هذا كثيرًا ما يرتبط الفن والإبداع بالجنون أو الاضطراب النفسي والغرابة في الشخصية وفي التصرفات، وكما يقول علماء النفس إن الإبداع هو تحطيم لكل ما هو مألوف وخلق لأشكال جديدة، ويبدو أنه من هنا كانت الأوصاف والحالات التى تنتاب المبدعين والفنانين عندما تختمر بداخلهم تلك الحالات الإبداعية وتخرج إلى النور أشكالاً مدهشة من الإنتاج والعطاء.. ولا أحد يشكك في إبداع »شوبان« ولا عبقرية »فان جوخ« التي قاربت حد الجنون أو طالته!! ولا عمّا يُحكى عن أسطورة بلزاك أحد رواد الأدب الفرنسي وقدرته الفائقة على العمل خصوصاً ليلاً.؛ فقد كان يغلق النوافذ عليه بدءاً من الساعة العاشرة مساء ثم يُحضر وعاء كبيرًا من القهوة ثم يبدأ الكتابة حتى الصباح دون توقف! وقيل إنه كان يعمل خمس عشرة ساعة يومياً، بعد أن يبتلع عشرات الفناجين من القهوة. ولولا ذلك لما استطاع كتابة كل هذا الإنتاج الضخم المتمثل بالكوميديا البشرية، وهو لم يعش أكثر من خمسين عاماً ! و»فلوبير« الفرنسي صاحب رواية »مدام بوفاري« كان يجلس وراء طاولته من عشر إلى اثنتي عشرة ساعة يومياً لكي يستطيع أن يكتب رواية واحدة كل أربع أو خمس سنوات. ولذلك لم يكتب كثيراً: خمس أو ست روايات طيلة حياته كلها. وطالما تحدث »فلوبير« عن عذاب الكتابة وكيف أنه يُفني الساعات الطويلة. وأحياناً بضعة أيام، لكي يجد الجملة المناسبة أو حتى الكلمة المناسبة. وكم يلعن نفسه أثناء ذلك ويلعن الكتابة والأدب وكل شيء.. وكان يكثر من التشطيب على كل صفحة يكتبها »فلا تكاد تقرأ فيها شيئاً واضحاً من كثرة الحذف والتشطيب والإضافة والتصحيح أو التعديل« وقد تحول منزله إلى متحف يزوره الزائر متى يشاء كي يستمتع بالجو الذي كان يعيشه صاحب »مدام بوفاري« في القرن التاسع عشر. وأما الكاتب الألماني »جوته« الرجل الذي يعتبر مفخرة ألمانيا كلها لم يعش قرير العين ولم يخلُ من الأزمات والهزات النفسية المؤلمة وهو أيضًا دفع ثمن إبداعه ورغم مقولته »الفن مخرج من الاختلال العقلى وبديل للجنون« إلا أنه اعترف بأنه مريض نفسياً، وبأنه يعاني معاناة هائلة لا يعرف كنهها ولا سببها. ومن مخاض الإبداع والحالة الخاصة التى تنتاب المبدعين في كل بقاع الدنيا ولا أظن أن الأشياء تختلف كثيرًا هذا المجهود النفسي مع التركيبة الخاصة لدى المبدعين في مواجهة واقع دومًا مختلف وكأنهم جاءوا قبل الأوان.. تجعلهم أكثر هشاشة وعرضة للاضطرابات ولم ينجُ بعض مبدعونا وكتابنا وشعراؤنا من ذلك الاضطراب في حياتهم والذي لم يؤثر في قيمة إنتاجهم ولا في قيمتهم لدى الناس..