بدعوة كريمة من معالي الدكتور عبد الله التركي، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي أنشأت هذه الورقة البحثية التي تناقش أسباب نجاح الحركات السلفية، وألقيت خلاصتها بمكةالمكرمة، وهي تستخدم منهج دراسة الحالة التفصيلي لاستكشاف نموذجين رفيعين من نماذج الدعوة السلفية. الأول هو منهج سيدنا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب «1115 1206ه»، الذي انطلق من نجد واستهدف تصحيح عقائد الناس، وتمكين عقيدة التوحيد في البلاد وتوحيدها. والثاني هو منهج سيدنا الشيخ عبد الحميد بن باديس «1307 1358ه» الذي انطلق من ناحية قسنطينة بالجزائر، وعمل على تصحيح عقائد الناس وصيانة الهوية الإسلامية العربية للجزائر، وتخليصها من آثار الغزو الفكري والثقافي الاستعماري الفرنسي. وقد اقتضت دواعي المقارنة والموازنة أن نقوم باستعراض ملامح البيئتين الاجتماعيتين والثقافيتين المختلفتين، اللتين عمل في إطار محدداتهما هذان المصلحان الكبيران، حتى استطاعا بفضل الله تعالى ثم بفضل صبرهما وثباتهما إصلاحهما إلى حد كبير. كما كان لا بد من اختبار الخلفية العلمية، لكل من هذين المصلحين، وهي الخلفية التي مكنت كلاً منهما من إنجاز ما أنجزه، في مجال الإصلاح العقدي والاجتماعي. وعلى إثر ذلك عقدنا مقارنة وموازنة بين نهجي الشيخين في التجديد والإصلاح، لنحدد وجوه الشبه بينهما، وهي الوجوه التي اقتضاها اعتماد الشيخين على المصادر الأصلية للدين، ممثلة في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، ولنستقصي وجوه الاختلاف التي اقتضاها اختلاف مكونات البيئتين المحليتين المختلفتين، اللتين مارس في إطارهما هذان المصلحان ضروب الإصلاح العامة التي نهضا بها. واستخلصنا في النهاية النتائج العامة من الدراسة، وهي النتائج التي تؤكد اتحاد منهج السلف في مجال إصلاح العقائد والسلوكيات، واختلافه في مجال الإصلاح الاجتماعي والثقافي. البيئة التي تصدى لإصلاحها محمد بن عبد الوهاب: أشرق نور دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في الهزيع الأخير من ليل نجد الذي تمادى طوله لعدة قرون. وبدت نجد رغم تاريخها التليد وكأنها تعيش على هامش العالم الإسلامي. وكما أشار الدكتور عويضة الجهني فإنه بالرغم من أن الإسلام كان قد انبثق في الجزيرة العربية، إلا أنه في خلال أقل من نصف قرن، فإن مراكز الحكومة والثقافة والتعليم، قد انتقلت إلى خارج الجزيرة العربية. وباستثناء المدينتين المقدستين، مكة والمدينة، وبعض مدن اليمن، وقليل من الواحات المتناثرة في الصحراء، فإن سكان الجزيرة العربية، وبخاصة البدو، أخذوا يفتقدون تدريجياً صلتهم بالإسلام، وأخذوا يحثون الخطى راجعين إلى عقائدهم وتقاليدهم السابقة للإسلام. وقد بدت آثار تلك الشركيات والبدع المغلظة أكثر ما بدت في مظاهر تقديس أهل نجد للكائنات التي هي مخلوقات أمثالهم لا تملك لهم ولا لنفسها نفعاً ولا ضراً. وكما أفاد بعض علماء الاجتماع البشري فإن أمثال تلك البدع لا تنتشر وتستفحل إلا حينما يتفشى الجهل ويستحكم شأنه في المجتمعات فيفتك بالمعتقدات كما تفتك الجراثيم بالأجساد ضعيفة المناعة والمقاومة. وكما يقول المفكر الإسلامي الإصلاحي الكبير مالك بن نبي رحمه الله في إحدى حكمه الصائبة فإنه: حيثما اختفت الفكرة يبرز الوثن!! وهكذا فعندما ذبلت المعرفة بالتوحيد الأكيد عند المسلمين من قُطَّان نجد، برزت في مخيلاتهم الأوثان من كل نوع وصنف، وهرعوا في وله ووجد إلى تأليهها وعبادتها مخلصين لها الدين من دون الله رب العالمين. وإذا كان ذلك النوع من الشرك المنكر قد شاع وذاع في أرجاء العالم الإسلامي أجمع، إلا أنه قد برز بصورة أوضح وأسطع في إقليمي نجد والحجاز وما جاورهما. وقد تضافرت على الشهادة بشيوع العبادات الشركية في ذينك الإقليمين أقوال وشهادات المؤرخين النجديين وسواهم. وسنعمد في تصوير ذلك الواقع الاشراكي المريض، إلى استدلال مقتبسات من بعض كتابات مؤرخي نجد الكبيرين الشيخ حسين بن غنام، والشيخ عثمان بن بشر، وبعض رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وإلى تعضيد ذلك بمشاهدات سجلها بعض المؤرخين الغربيين الموضوعيين المحايدين الذين درسوا تاريخ نجد بأسلوب تحليلي تأملي، أو جابوا في أنحائها في ذاك الحين، ورأوا بأم أعينهم ما كان يستفيض فيها من الضلال المبين. يحدثنا العلامة الشيخ المؤرخ حسين بن غنام الذي عاصر محمد بن عبد الوهاب وأرخ له ولدعوته، أن أكثر المسلمين في العقود الأولى من القرن الثاني عشر الهجري كانوا: قد ارتكسوا في الشرك، وارتدوا إلى الجاهلية، وانطفأ في نفوسهم نور الهدى، لغلبة الجهل عليهم، واستعلاء ذوي الأهواء والضلال، فنبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتبعوا ما وجدوا عليه آباءهم من الضلالة ، وقد ظنوا أن آباءهم أدرى بالحق وأعلم بالصواب. وما اقتصر التقديس على الصالحين، فقد كانت قبور الطالحين تقدس أيضاً، وللتمثيل على ذلك فقد كانوا قد ابتنوا قبة عظيمة على قبر أبي طالب، وكانوا يقدسون من الطالحين بعض الأحياء، فقد كان ثمة رجل منهم يأتي الدرعية يدعي الولاية: سلكوا فيه سبيل الطواغيت فصرفوا إليه النذور وتوجهوا إليه بالدعاء، واعتقدوا فيه النفع والضر. ولكن كل ذلك ما دعاهم ولا ردعهم لكي ينصرفوا عن عبادته ومهابته وتقديسه!! ولم يكن تقديم فروض العبادة متوجهاً تلقاء البشر وحدهم، وإنما كان هنالك توجه نشط من أهل ذلك العصر لعبادة الحجر والشجر. فعند الدرعية كانوا يقدسون غاراً في الجبل: يزعمون أن الله تعالى خلقه في الجبل لامرأة تسمى بنت الأمير، أراد بعض الفسقة أن يظلمها، فصاحت، ودعت الله، فانغلق لها الغار بإذن العلي الكبير، فأجارها الله من ذلك السوء، فكانوا يرسلون إلى ذلك الغار اللحم والخبز ويبعثون بصنوف الهدايا. وقد استعرض المؤرخ الشيخ عثمان بن بشر مظاهر شتى للشرك، وأجمل ذلك الاستعراض في وصف محكم إذ قال: وكان الشرك إذ ذاك قد فشا في نجد، وغيرها، وكثر الاعتقاد في الأشجار والأحجار والقبور، والبناء عليها، والتبرك بها، والنذر لها، والاستعاذة بالجن والذبح لهم، ووضع الطعام لهم، وجعله لهم في زوايا البيوت لشفاء مرضاهم ونفعهم، والحلف بغير الله، وغير ذلك من الشرك الأكبر والأصغر. وفي تاريخ الشيخ ابن بشر تفاصيل وافية في شرح أنواع الشركيات التي كانت محل اعتقاد في أوساط واسعة في نجد، ومع ذلك لا تجد النقد والشجب الكافي من قبل العلماء. وقد تناول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مراسلاته مع بعض علماء زمانه وصف أحوال عقائد نجد وما جاورها. وقد أكد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ذلك الحكم السالف من غير أن يقوم بتكفير الناس. وما ذلك إلا لأنه يجد لهم بعض العذر في الجهل، فيقول في خطاب أرسله إلى الشيخ محمد بن عيد: ومن المعلوم عن الخاص والعام ما عليه البوادي أو أكثرهم .. ففيهم من نواقض الإسلام أكثر من مائة ناقض. وذلك تصوير مريع لانتهاك عرى الدين عروة بعد عروة وسط أولئك الأقوام!! كانت تلك الممارسات المختلة المباينة لهدي الدين هي التي دعت مؤرخاً أمريكياً حصيفاً، هو لوثروب ستودارد إلى أن يقرر أن الدين في نجد في تلك الفترة قد: غشيته داهية سوداء فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة الناس سجفاً من الخرفات وقشور الصوفية وخلت المساجد من أرباب الصلوات، وكثر عدد الأدعياء والجهلاء، وطوائف الفقراء والمساكين يخرجون من مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات، ويوهمون الناس بالباطل والشبهات، ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور. وغابت عن الناس فضائل القرآن، فصار يشرب الخمر والأفيون في كل مكان، وانتشرت الرذائل، وهتك ستر المحرمات على غير خشية أو استحياء. ونال مكةالمكرمة والمدينة المنورة ما نال غيرهما من سائر مدن الإسلام. وكانت تلك الصور المنكرة أيضاً وراء التغيرات الحاسمة التي سجلها الرحالة البريطاني لويس بيلي، الذي طاف بتلك النواحي حتى وصل الرياض في عام 1865م فكتب بلغته الغريبة مقرراً: أستطيع أن أقول إن الدين الإسلامي لم يقبل من قبائل وسط الجزيرة ككل، وأن بعض هذه القبائل تحول من الوثنية إلى الوهابية دون المرور على رحلة الإسلام! وقد تم ذلك خلال القرن الماضي، أو حتى في النصف الثاني من القرن الماضي، وعلى سبيل المثال أكد لي مصدر عربي ثقة أن أهالي الحوطة وسدير قد تحولوا خلال الأربعين سنة الأخيرة بواسطة المرحوم الأخير فيصل «يقصد فيصل بن تركي» من مرحلة الوثنية إلى مرحلة الوهابية مباشرة من دون أن يمروا بمرحلة الإسلام، وأنه لا تزال هناك أوثان محفورة في قمة الجبل من بقايا المعبد الذي كان يتعبد فيه أهل الحوطة، الذين مازالوا يحمون حرمة هذه المعابد ضد الغريب. فهذه شهادة شخص معاصر جاب تلك الأطراف وخبر أهلها ونقل عن ثقاتهم، ومهما بدت شهادته مستغربة منكرة إلا أنها لم تتعد تصوير الواقع. ولعل شهادة ممزوجة من تقريرات المؤرخ لوثروب ستودارد، ومشاهدات الرحالة لويس بيلي، تكون أكثر اعتدالاً وأقرب إلى الدقة. ومما يتماشى مع شهادة أخرى للمستشرق المنصف البروفيسور جون فول، الذي كتب مادة «الوهابية» في موسوعة الأديان وقال فيها: إن المدرسة الحنبلية لم تحرز انتشاراً واسعاً في العالم الإسلامي، ولكن بعض علماء الحنابلة كان لهم نفوذ محلي في بعض الأقاليم، مثل الإقليم النجدي بوسط الجزيرة العربية، حيث استمرت التقاليد الحنبلية تنمو في بعض المدن، ولكن نمط الحياة بنجد في ذلك الحين لم يكن يعكس روحاً دينية أصيلة، حيث كان الناس عموماً يؤمنون بالأشجار والأحجار، ويعتقدون أن لها قوى روحية، وأن لقبور الصالحين قداسة خاصة، وهذه العقائد هي ما كان يصمه العلماء الأصوليون بأنه من تجليات الشرك وآثار الجهل والجاهلية. وقد كان ذلك هو لون الشرك الذي قام لدحره شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ولبث عمره كله في مواجهته حتى انتصر عليه، وأسهم في إقامة مجتمع إسلامي جديد على أساس من التوحيد الخالص، والعلم الشرعي المبرأ من البدع، والعبادة المخلصة لله، والانقياد لسلطة سياسية موحدة دعمت الوحدة ومكنتها، وأرست دعائم الأمن في البلاد.