عن تاريخ مدينة الخرطوم، يقول المؤرخون إنها كانت في فترة الحكم التركي في السودان «1821م 1881م» معسكراً لرئاسة القوات التركية في السودان، كما يذكر المؤرخ الإنجليزي «تشارلس ديدبير» الذي زار الخرطوم في عام 1854م بأنها تأسست كمدينة في عام 1832م، وتمّ الإعلان عنها كعاصمة للسودان في عام 1830م. وقد سعدت حقاً بالاطلاع على كتاب صدر حديثاً بعنوان «الخرطوم أيام زمان» لمؤلفه الأستاذ أحمد عبد الوهاب محمد سعيد من مواليد الخرطوم في عام 1935م، وتولى مهام عدة وظائف بمسؤوليات كبيرة، نذكر منها: وظيفة مدير إدارة التوكيلات بشركة متشل كوتس وشركاه بالخرطوم، ومساعد الملحق التجاري الأمريكي بالسفارة الأمريكيةبالخرطوم، ومدير إدارة البحوث والمعلومات بالبنك الإسلامي السوداني بالخرطوم. ويقول المؤلف الأستاذ أحمد عبدالوهاب محمد سعيد في المقدمة عن كتابه هذا، إنه يشتملُ على مجموعة ذكريات عن ناس وأحداث أثرّوا وتأثروا بالحياة العامة في الخرطوم القديمة، وهي تجربة ذاتية للكاتب الذي رأي أنه من المفيد أن تعُمّ فوائدها الجميع. وهذه الذكريات بمثابة لمحات تاريخية للفترة من سنة 1935م عندما ولد المؤلف في الخرطوم، وسنة 1985م عندما تقاعد عن العمل بالمعاش. وفي الكتاب يرسم لنا لوحة واقعية معبرة عن أحوال الناس في الخرطوم عند وداع أفراد من الأسرة أو استقبال القادمين من خارج العاصمة بمحطة سكة حديد القطار بالخرطوم، حيثُ يقول المؤلف: كان ذلك في أواخر عام 1942م والوقت قبل غروب الشمس بقليل عندما توقف قطار كريمة بمحطة الخرطوم، وكان المكان يموجُ بالواصلين والمستقبلين وأصحاب عربات الأجرة وهم يصيحون: أم درمان الديوم بري، وكانت تفوح روائح التمر والدقيق.. والسمن، ووسط ذلك الحشد من المواطنين، ظهر الوالد وهو يبتسم ويلوِّح بيده للأسرة العائدة من البلد، فأسرعنا إليه في شوق دافق، وهو يضمنا إليه في حنان حميم ثم مدّ يده مصافحاً الوالدة التي كانت ترتدي ثوب «أبو قجيجة» الأصلي، والفدو «القمر بوبا» تلمعُ تحت الثوب! ولم يمض وقت طويل حتى تفرّق الجميع في أحياء الخرطوم القديمة. وكانت الديوم القديمة بالخرطوم في ذلك الحين، تقع شمال مقابر فاروق وجنوب سوق نمرة «2»، وكان لكل قبيلة ديم باسمها! فهناك ديم التعايشة وهو أكبر الأحياء، وكان عمدة الديوم العمدة عمر كويس من قبيلة التعايشة، وكان لكل ديم شيخ يتبع لذلك العمدة، فكان هناك ديم الجوامعة وديم تقلي وديم النوبة وديم برتي. وفي المجالين الاقتصادي والتجاري بالخرطوم، يقول المؤلف في كتابه «الخرطوم أيام زمان»: لقد اهتمت بعضُ الجاليات بالخرطوم بأعمال التجارة كاستيراد الأقمشة وإنشاء الأفران، وكانت بعض الأسر السودانية اشتهرت في مجال العمل التجاري كأسرة عبد المنعم محمد وأسرة «أبو العلا» وآل مصطفى ساتي وآل كشة وغيرهم يعملون في التجارة العمومية والمحاصيل. وكانت تجارة الصادر والوارد محتكرة بواسطة ثلاث شركات إنجليزية هي: شركة متشل كوتس وشركة سودان مركنتايل وشركة جلاتلي هانكي، وكان التجار المحليون يبيعون المحصولات السودانية من قطن وصمغ وسمسم وفول سوداني لتلك الشركات التي تقوم بتصديرها للخارج كما تقوم تلك الشركات باستيراد كثير من السلع والبضائع وبيعها للتجار المحليين. وعن النشاط الرياضي في مدينة الخرطوم، قال المؤلف: لقد كانت بمدينة الخرطوم عدة فرق رياضية، من أبرزها: النيل والأهلي وبري وتوتي، وكان مقر الفريقين: النيل والأهلي في قلب الخرطوم. وكان السيد الزئبق يتبنى فريق النيل، بينما يتبنى السيد الفوال فريق الأهلي.. وكان بينهما تنافس حاد ورهانات مشهودة حيث يستخدمان بأسلوب الدعابة والمرح، كراسي الخيزران التي يقومون بتأجيرها في الحفلات، للرهان بدلاً من المال، فترى عربة «الكارو» تحمل خمسين كرسياً من مخازن «الزئبق» وتتجه بها لمخازن «الفوال» في حالة انتصار النيل على فريق «الأهلي»، والعكس صحيح! وأما فريقا «بري» و«توتي»، فهما يمثّلان المناطق المنتمية للخرطوم، كما كان هنالك فريقان من الديوم، هُما فريقا: «فكتوريا» وسُمّي» فيما بعد بفريق «النسر» وفريق «ديم سلمان»، وعدد من الفرق الصغيرة. وكان الميدان الرئيسي لكرة القدم هو ميدان النجيلة الذي عُرف فميا بعد باسم: «ميدان الأممالمتحدة» غرب جامع الخرطوم الكبير، وكانت احتفالات المولد النبوي الشريف تُقام في نفس المكان.. وأما في المنطقة الواقعة جنوب «السكة حديد» وشمال الديوم حيث يوجد ميدان فسيح تتبارى في ساحته فرق صغيرة، وتؤدي تمارينها الرياضية كفريق «البرنس» و«الكفاح» و«القوز» و«جلاس» وبعضها أصبح من فرق الدرجة الأولى فيما بعد.. وأما أنواع الرياضة الأخرى في الخرطوم، ككرة السلة والكرة الطائرة وتنس المضرب، فكانت تمارس داخل أندية الفرق الكبيرة وفي نادي الخريجين، وكانت تقام منافسات رياضية بين المدارس وبين منتخبات من الخرطوموأم درمانوالخرطوم بحري، وكانت المباريات الكبيرة بين الفرق الرياضية ينحصر أداؤها إما في دار الرياضة بأم درمان أو ميدان النجيلة بالخرطوم.. وكانت في الخرطوم أيضاً مناشط رياضية أخرى كالفروسية والسباحة ونزهة الزوارق في نهر النيل ورياضة كمال الأجسام. { وفي المجال الفني بالخرطوم، قال المؤلف الأستاذ أحمد عبدالوهاب محمد سعيد في كتابه «الخرطوم أيام زمان»: لقد كانت الأغاني الشعبية في ذلك الوقت مرتبطة بالقبائل المختلفة الموجودة في الخرطوم، فمثلاً كان المغنون من قبيلة التعايشة يتغنون بأغنيات من غرب السودان، ومن أغنيات الشمال: «بنات المحس العظاما.. الفوقن هيبة وكرامة» أو: «ضرب السوط ما كدي خلي الجعلي اليجي»! ثم ظهرت أغاني الرق والمعروفة الآن بحقيبة الفن بشعرائها كود الرضي ومحمد بشير عتيق وإبراهيم العبادي وغيرهم، وقام بتلحينها وغنائها الفنانون أمثال سرور وكرومة وعبدالله الماحي والفاضل أحمد وغيرهم، وكانت الأغاني محصورة في بيوت الأفراح. وانتشرت أغاني الحقيبة في العاصمة والأقاليم، وظهرت أغاني التُم تُم، وهي أغاني البنات في مناسبات الأفراح، وكل أغنية تُعبّر عن بطولات وأخلاقيات الأهل في الحماسة والشهامة والكرم. وبعد أغنيات حقيبة الفن، وأغاني البنات، ظهرت أغاني العود الحديثة.. وكان أول من أجاد العزف على آلة العود: عبد القادر سليمان شقيق المطرب حسن سليمان، وأول من أجاد عزف الكمنجة الموسيقار السر عبد الله، ومن أوائل المغنين في الإذاعة الفنانون حسن عطية وأحمد المصطفى وإبراهيم الكاشف وعائشة الفلاتية والتجاني السيوفي وإسماعيل عبد المعين. { ويجدر بالذكر أن تعداد سكان الخرطوم عندما نال السودان استقلاله في عام 1956م حوالى مائة ألف نسمة، والآن يقدر عدد سكان هذه المدينة بحوالى ستة ملايين نسمة.