ألقت رئاسة الجمهورية حملاً ثقيلاً على عاتق آلية الحوار الوطني وطلبت منها في ذات الوقت إدارة شأن الحوار مع القوى السياسية بما فيها الحاملة للسلاح، وهي مهمة بمقياس المعطيات الراهنة عسيرة وشاقة ومرهقة قد تكلفها كثيراً من الجهد والوقت وربما المال. لأن الحوار الذي تنشده الحكومة أو الذي تتطلع إلى نهاياته الأخيرة وتبتغي نتائجه هو ليس ذلك الحوار الذي قبلت بمقتضاه المعارضة المشاركة في آلياته واجراءاته ولكنه حوار من نوع آخر كما يبدو. فالحكومة مثلاً تنظر لهذا الحوار بمنظارها الخاص او رغباتها واحتياجاتها لمخرجاته، فالنظرة هنا لا تتجاوز منطق المحاصصة او «الكوتات» في التشكيلات الحكومية والعملية بهذا الفهم لا تعدو كونها إعادة لإنتاج الذات او الدوران في ذات الفلك، الفلك القديم دون الوصول الى نقطة الالتقاء اوالنهايات الحاسمة بين الحكومة وخصومها السياسيين.. ربما هذا هو الفهم او منطق العقل الذي تفكر به الحكومة في تعاطيها مع قضية الحوار الوطني الذي فرضته معطيات الواقع، ولهذا فهو غاية في ذاته وليس كوسيلة اوآلية تقود كل الاطراف الى شاطئ آمن. ولكن الآخرين وبالاخص اولئك الذين يقفون في الضفة الاخرى من الحوار، وتحديداً حزبي الأمة القومي وحركة الإصلاح الآن فان نظرتهم او منطقهم او مفهومهم السياسي لقيمة وجدوى الحوار، يختلف تماماً عن منطق الحكومة ومؤتمرها الوطني، او ربما يتقاطع معها فموقفهم كما يرى الدكتور غازي صلاح الدين مبني على اساس ان هذا الحوار لا ينبغي له ان يكرر نفسه، او يمضي بذات الاساليب والمسارات القديمة وانما لا بد له ان يفضي الى اعادة هيكلة وبناء الدولة، وبسط العدالة واشاعة اجواء الحريات وتوسيع مظلة الحوار لتشمل كل الطيف السوداني بما فيه الحركات المسلحة، والايفاء بالتعهدات والتعاقدات السابقة وان أي حوار يتجاوز هذه القضايا لا حاجة لهم فيه.. ولهذا سيظل الحوار يقف بين «لافتتين» او بين منطقتين هما منطق «المحاصصة» ومنطق «التفكيك»، وفي هذه المنطقة يقف الحوار حائراً كحمار الشيخ في العقبة، والوقت يمضي والازمات تحكم قبضتها على مفاصل الدولة السودانية وتهتك باوصالها والآلية «السباعية» التي اختزلت الى سداسية يحمِّلونها ما لا تحتمل، فليست بيدها عصا موسى السحرية حتى تدفع بهذا الحوار ولو بخطوة واحدة الى الامام، الا اذا كان المقصد من هذه الالية المزيد من المناورة وتطويل المسافات دون الوصول الى النهايات الحاسمة.. سيناريو آخر قدر ولاية الجزيرة أن نزيفها لم ولن يتوقف طالما أن الحكومة تتعامل معها ومع مشروعها الزراعي بأنصاف الحلول، او عبر كبسولات العلاج الوقتي حيث لا إرادة ولا خطة ولا حتى رؤية للخروج بالمشروع من غرفة الانعاش.. فالازمات لا زالت تراوح مكانها وبلا حلول.. المساحات الزراعية تتقلص عاماً بعد عام بسبب العطش الذي تعاني منه معظم اقسام المشروع، لان الاطماء والحشائش هناك اغلقت كل القنوات وسدت كل الطرق وكاد المشروع ان يفقد أهم ميزة يستمتع بها عن غيره من المشروعات الزراعية في السودان او في محيطه الاقليمي، وهي ميزة الري الانسيابي الذي لا يكلف الادارات شيئاً ولكن الذين سعوا الى إفقار مشروع الجزيرة وهدمه هم الذين فككوا مؤسساته وبنياته الاساسية، واغتالوا مؤسسة الحفريات في وضح النهاربلا مبالاة تحت طائلة قانون 2005 وباعوها بأبخس الاثمان، وشردوا بذلك المئات من الخبراء والكفاءات وفعلوا جريمتهم هذه وتركوها في العراء، وللاسف الشديد فان أصحاب الجريمة يمشون بيننا بل يتنقلون من منصب الى اخر لا احد يحاسبهم على جريمتهم هذه، فاسألوا الدكتور تاج السر مصطفى صاحب لجنة تقييم ومراجعة المشروع فان ما لديه من حقائق ومعلومات ادهى وامر، لان تقرير لجنته شخَّص حقيقة ما يعانيه مشروع الجزيرة من أمراض وعلل، ورسم التقرير مسارات الخروج من هذا الواقع وحدد الوصفة.. ربما ان الحكومة غير قادرة او غير راغبة لتحمل تكاليف وأتعاب هذه الوصفة فلا حديث الان عما قالته هذه اللجنة، فقد حجب التقرير وسجن في الادراج ولا ندري متى وكيف يخرج من أدراجه الى فضاءات حقول الجزيرة، فالى متى يبقى هذا المشروع وهو بكل هذا الوهن طالما انها غير قادرة على بعث الروح في أوصاله ؟ثم ماذا تنتظر الجزيرة حتى تعيد لابنائها فردوسهم المفقود او تبعث فيه بعض حياة؟ واخطر ما في مشروع الجزيرة ان الذين يمارسون الجريمة في حقوله ينفذون ذات الجريمة في العام الذي يليه وبذات الادوات وبذات السيناريو، لان الجريمة هناك لديها مستودعات للتفريخ والاستنساخ.. فمجالس المزارعين في غرب وجنوب الجزيرة يتحدثون الان عن خطر آخر جديد يداهمهم في معايش أسرهم وهو ان بذور الذرة التي نثروها في الارض قبل ايام قلائل وهيأوا لها كل الظروف استعصت على الانبات وبقيت في حفرها لانها تالفة وفاسدة، وهذا هو ذات القلق الذي اصابهم العام الماضي في بذور القمح التي دفعوا في سبيلها الملايين واستقطعوا من قوت أبنائهم وأهدروا جهدهم واضاعوا موسمهم من اجل انجاح هذا المحصول، ولكن ضاعت الملايين وضاع القمح واتجهوا نحو المحاكم، لكن لا شيء هناك يحصدونه في هذه المحاكم فضاع كل شيء رغم ان جريمة البذور الفاسدة مكتملة الاركان والشخوص ولا زال المزارعون يبحثون عن من هو ذلك العبقري الذي استجلب لهم هذه البذور الفاسدة بعد اقناعهم بأنها ستفجر لهم الأرض قمحاً ووعداً وتمني ..! قبة الشيخ الفاتح أسدل البرلمان الستار على دورته البرلمانية المنتهية قبل أيام قليلة، حاولت عبرها قيادة المجلس اقرار منهج جديد اكثر واقعية مع كل ما يطرح تحت القبة بما فيها أمات القضايا السياسية، فكان الكسب الذي تحقق ان «32» جلسة برلمانية شهدت صعود وهبوط الانفاس الساخنة ولم يكن في وسع القيادة سوى ان تمد حبال الصبر والتحلي بالحكمة، بحكم ان البلاد تواجه عواصف من كل الجهات وفي كل المجالات.. حاولت هذه الدورة ان تعلي من شأن لوائحها وضوابطها الداخلية وتدفع بالممارسة البرلمانية لمعالجة قضايا ومشكلات التشريع ومراجعة القوانين وتعديلاتها، حتى تتهيأ هذه الدولة لدخول مرحلة التحولات الكبرى في السياسة والاقتصاد والامن، ولكن تظل القضية الابرز في سكة البرلمان هي استكمال كل حلقات الانتخابات المقبلة وتوفير الاجواء الملائمة لها، فسعت قيادة الدكتور الفاتح عزالدين الى فتح كوة داخل البرلمان ناحية القوى السياسية للاخذ والعطاء في مطلوبات قانون الانتخابات، فالحكومة ترى في قرارة نفسها ان العملية الانتخابية هي ورقتها الاخيرة التي يمكن ان تخاطب بها المجتمع العالمي والمحلي، لكن يبدو ان انفعال النواب مع كل القضايا البرلمانية لم يكن بذات القوة والارادة التي تحلت بها قيادة البرلمان، فالحضور لم يتجاوز نسبة «60%» فقط ويشكل نواب الوطني نسبة الغائب الاكبر، في الوقت الذي تنتظر فيه قطاعات كبيرة من المواطنين من ممثليهم ان يطرحوا على البرلمان كل أزماتهم ومشكلاتهم الخدمية والتنموية، ويحسب لصالح هذه الدورة أيضاً أنها حاولت الانتصار للحق العام على الاقل على المستوى التشريعي والقانوني، ولكن يظل التحدي الاكبر هو في قدرة كل هذه هذه التشريعات في حماية الحق العام وتأمينه من الهدر والانتهاك.