عندما كانت الطائرة تنزلق بهدوء على مدرج مطار مدينة منسك، عاصمة بيلاروسيا أو روسيا البيضاء كما كانت تعرف في السابق، تزاحمت خواطر شتى عن هذه البلاد البعيدة الأقرب إلى الدائرة الكبرى للمحيط المتجمد الشمالي، بتاريخها الطويل وتقلباتها على مسارات الماضي الأوروبي المثخن بجراحات غائرة، والعرق السلافي الذي ينتمي إليه البيلاروس وامتداداته في المنطقة، والعهد السوفيتي الذي امتد لسبعين عاماً والذي لا يزال يخيم بجناحيه غير المرئيين على الفضاء الأوراسي الجديد. جمهورية بيلاروسيا.. دولة مغلقة، تجاور روسيا وأوكرانيا ولاتيفيا وبولندا، عدد سكانها لا يتجاوز التسعة ملايين من البشر، من أكثر دولة المنطقة انتعاشاً في الجوانب الاقتصادية واستقلالاً بقرارها السياسي، وهي متطلعة لموقع متقدم في السياسة الدولية تسندها رؤية جديدة تنتمي لتيار نامٍ ومتصاعد في الساحة الدولية يرفض الهيمنة ومنطق القوة والسيطرة والعنجهية السياسية.. وقد حققت هذه الدولة في سنوات قليلة منذ استقلالها مطلع عقد التسعينات، معدلات نمو هائلة ونهضة زراعية وصناعية جعلتها من أهم الدول المنتجة للقمح والسلاح والصناعات الثقيلة والتكنولوجيا الحديثة. وتزاحمت صور شتى كانت مخزنة في الذاكرة غداة إعلانها دولة مستقلة.. والرئيس الكسندر لوكاشينكو.. وساحة النصر وسط العاصمة التي احتشدت بآلاف البيلاروس المستنشقين عبير الحرية الطازجة يومئذ، وساحة الحرية وميدان الشهداء، وعندما هبطنا المطار وتحركنا إلى قلب العاصمة منسك وتعني باللغة البيلاروسية المقايضة، وكانت منسك بالفعل في العهد السوفيتي نقطة التقاء تجاري بين أوروبا الشرقية وغرب أوروبا فاصلة بين المحورين الشرقي والغربي، ولذلك اكتسبت أهميتها التجارية والصناعية. طرقات المدينة واسعة.. نظيفة منظمة كأنها شيدت للتو، الطرق تشق المروج الخضراء ومزارع القمح الممتدة على امتداد البصر، حتى وصلنا المدينة ببناياتها الحديثة تتمازج مع الطراز السوفيتي القديم خاصة المجمعات السكنية والمرافق العامة ومؤسسات الدولة والمسارح العتيقة والكنائس الآرثوذكسية القديمة، لكن معالم التحديث والعصرنة طغت على تلك الملامح التالدة.. حركة السير منسابة بيسر وترى الطريق مثل غدير الماء المتدفق بلا توقف ولا ازدحام وتكدس، تحس أن عدد السكان قليل، لكن أهل هذه البلاد يدبون تحت الأرض في قطارات الأنفاق، وترى قلة منهم في الطرقات تتحرك بالسيارات الخاصة أو البصات الكهربائية غير الممتلئة بالركاب.. فسطح المدينة كأنه لوحة فنان رسمها بحذق وعناية، كل شيء في مكانه يتحرك بمقياس موزون وترتيب متقن مثل غرفة عمليات في مستشفى فخيم. وفد رفيع.. واستقبال كبير وصلنا يوم الإثنين الماضي ظهراً إلى العاصمة البيلاروسية، وفد برئاسة الدكتور عيسى بشرى نائب رئيس المجلس الوطني والمهندس إبراهيم محمود حامد وزير الزراعة، والدكتور حبيب أحمد مختوم رئيس لجنة الزراعة والثروة الحيوانية بالمجلس الوطني، والبروفيسور فتحي خليفة رئيس مجلس إدارة البنك الزراعي السوداني ومديره العام الدكتور صلاح حسن، والأستاذ عبد القادر عبد الله الأمين العام للمجلس الوطني، وجبر الدار أحمد مدير مكتب نائب رئيس البرلمان، وعوض إزيرق من إعلام البرلمان، وكاتب هذه السطور.. الزيارة غرضها الأساس هو التوصل مع الجانب البيلاروسي إلى شراكة سياسية واقتصادية شاملة وتدعيم العلاقة بين البلدين الصديقين حيث ارتبط السودان بعلاقة جيدة مع هذه الدولة المهمة، وحان وقت تمتينها أكثر والقفز بها فوق كل العقبات التي أعاقت تقدمها في السابق. استقبلنا في مطار منسك، نائب وزير الخارجية ريماكوف ووفد يمثل البرلمان البيلاروسي السيناتور شاركوتين وممثلين عن وزارة الخارجية البيلاروسية وأعضاء البيت السوداني البيلاروسي. ونائب وزير الخارجية قال لدى استقبال الوفد «إن بيلاروسيا حريصة على تنمية وتطوير علاقتها بالسودان، وظلت تنتظر مثل هذه الخطوة لبدء مرحلة عملية في مسار العلاقة، والسودان بلد مهم في إفريقيا، وحان الوقت لتكوين لجان مشتركة بين البلدين وتبادل الزيارات وفتح السفارات»، مشيراً إلى أن هناك صادرات من بلاده للسودان تتمثل في الجرارات وبعض المعدات الزراعية، من جانبه، حيا د. عيسى بشرى قيادة وشعب بيلاروسيا، وهنأهم بالعيد الوطني، وقال إن الزيارة تهدف إلى ترقية وتطوير العلاقات الاقتصادية والاستفادة من تجربة روسيا البيضاء في النهضة الزراعية والصناعية، وأضاف أن الوفد الكبير الذي وصل يحمل رسالة من الرئيس البشير للرئيس البيلاروسي، ويناقش القضايا السياسية والاقتصادية وسبل تعزيز العلاقات وتطويرها في ما يخدم مصلحة البلدين والشعبين الصديقين. بدء المباحثات والزيارات الرسمية بدأ الوفد السوداني مباحثاته في العاصمة منسك بلقاء رئيس الوفد الدكتور عيسى بشرى بوزير الخارجية البيلاروسي فلادمير ماكي بمكتبه بوزارة الخارجية، وأكد فلادمير اهتمام بلاده بالقارة الإفريقية ولديهم اهتمام خاص باعتباره دولة صديقة، حيث زاد حجم التبادل التجاري إلى «70» مليون دولار، ونأمل التوسع في التعامل بين البلدين مع استكمال العلاقة الدبلوماسية بين الجانبين.. وقال إنه توجد لجنة مشتركة وانعقدت الاجتماعات في أبريل من العام الماضي وستنعقد في أقرب وقت ربما في سبتمبر خلال زيارة وفد بيلاروسي برئاسته للخرطوم. وقال إن زيارة الوفد السوداني ستكون مثمرة، وذكر أن الرئيس البيلاروسي طلب منه نقل تحياته للرئيس عمر البشير، ولا يزال يذكر زيارة الرئيس البشير إلى منسك عام «2006م».. وقال إن كل الأبواب مفتوحة لشراكة مع السودان في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والتجارية. من جانبه، شكر د. عيسى بشرى الوزير على كلماته وقال إن السودان يعول كثيراً على هذه الزيارة، وأهدافها السياسية والاقتصادية وهي محل اهتمام شخصي للرئيس البشير، ولا بد من قيام شراكة إستراتيجية بين البلدين. منوهاً إلى أن السودان عضو فاعل في الاتحاد الإفريقي والجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي.. وقدم شرحاً لتطورات الأوضاع بالسودان وانطلاق الحوار الوطني بين كل مكونات العمل السياسي السوداني لتوحيد أهل السودان، ودعا دول الاتحاد الأوراسي خاصة روسياوبيلاروسيا وكازخستان للوقوف مع السودان ودعم الحوار وعملية السلام وعدم ترك المجال للدول الغربية الولاياتالمتحدة والترويكا الأوروبية للعمل وحدها في هذا المجال.. وقال إن السودان يريد تطوير علاقته مع بيلاروسيا في شتى الأصعدة رغم بطء ذلك في السابق مما يتطلب دفعة قوية هذه المرة، والسودان ينظر لإمكانيات بيلاروسيا وقدراتها على أنها ستكون شريكاً حقيقياً للسودان الذي يزخر بموارد طبيعية ومعادن نادرة، وهو بلد زراعي كبير لديه مساحات واسعة للزراعة ويحتاج تطوير قطاعه الزراعي بدخول بيلاروسيا إلى هذا المجال، وسينفتح لها باب كبير على إفريقيا عبر السودان، خاصة أن «60%» من المساحات الزراعية في هذه القارة غير مزورعة وغير مستثمرة. وتحدث رئيس الوفد عن إمكانيات السودان في مجال الصناعة والتصنيع الزراعي مثل شركة سكر كنانة ومصانع السكر الأخرى ومجال الخدمات خاصة الصحة وعلاج السودانيين في بيلاروسيا، وربط المعامل الطبية البيلاروسية بالمعامل السودانية، والمجال الزراعي، والتعليم.. وأشار إلى ضرورة تفعيل اللجنة الاقتصادية بين البلدين لتحريك كل معطيات العلاقة. وفي ختام اللقاء دعا وزير الخارجية البيلاروسي إلى الاهتمام بترقية العلاقة بين الجانبين، وأشاد بالحكومة السودانية وسعيها نحو الاستقرار والسلام، مضيفاً أن العلاقة الإستراتيجية بين البلدين تجد كل الدعم وهناك بعض الدول غير مرتاحة للعلاقة مع السودان، لكننا في بلدنا لا نتلقى التوجيهات من أحد ولا نستمع لنصائح من الخارج وسوف نستمر في العلاقة مع السودان، ونحن معكم في أن التطور الاقتصادي كان بوتيرة بطيئة وليست سريعة، ومهمتنا الآن الدفع القوي، وهذه الزيارة خطوة مهمة ونتوقع أن تكون جلسة اللجنة الوزارية المشتركة في سبتمبر المقبل بالخرطوم، وقبلها اجتماعات الخبراء بداية للعمل في كل المجالات خاصة أننا نرغب في توسيع وتطوير العلاقة مع السودان وتوسيع التمثيل الدبلوماسي في إفريقيا، وسنبدأ في السودان بالمكتب الاقتصادي للسفارة حتى اكتمال افتتاح السفارة، ونتمنى زيارة وزير النفط السوداني لاستكمال العمل مع شركات النفط البيلاروسية، وسنرسل وفداً من رجال الأعمال إلى السودان لترتيب الموضوعات التجارية.. ونسعى لتجهيز كل الاتفاقيات للتوقيع عليها خلال اجتماعات اللجنة الوزارية المشتركة في الخرطوم. وقام د. عيسى بشرى بتسليم السيد وزير الخارجية رسالة من السيد رئيس الجمهورية المشير عمر البشير إلى الرئيس البيلاروسي الكسندر لوكاشينكو. شركة أمكادورف زار الوفد السوداني الزائر أكبر الشركات في بيلاروسيا لصناعة الآليات الزراعية والآليات الثقيلة «أمكادورف»، وهي شركة معروفة على نطاق العالم، في مقر الشركة الضخم وسط العاصمة، ويوجد معر ض للآليات التي تصنع في مصانعها وهي الجرارات الضخمة واللودرات والتراكتورات والآليات الزراعية من حاصدات وزراعات ورشاشات ورافعات، وكل المعدات التي تعمل في مجال الحفريات والطرق والغابات والمزارع. وتأسست هذه الشركة عام «1927م» وتصدر إنتاجها لدول في مختلف قارات العالم منها الهند والبرازيل وفنزويلا والدول الأوروبية وإفريقيا ولديها خبرة واسعة للتصنيع للدول الواقعة في المناطق الحارة. عقد اجتماع مشترك في مقر الشركة تحدث فيه المهندس إبراهيم محمود حامد وزير الزراعة عن توجهات السودان ومدى استعداده ليكون من أكبر الدول المنتجة للغلال والحبوب مع ازدياد الأزمة العالمية في الغذاء، مضيفاً أن السودان قبلة للمستثمرين والشركات التي تعمل في مجال الزراعة، وهناك كونسورتيوم من «30» شركة أوروبية بقيادة ألمانيا تفكر في استدامة إنتاج الغذاء بكلفة معقولة لضمان الاستمرار في الإنتاج الزراعي والمحافظة على سوق الغذاء ويطمحون لزراعة «160» ألف هكتار، وهذه تتطلب آليات ومعدات فلا بد أن يأخذ هذا المصنع نصيبه في الإسهام في توفير هذه الآليات الزراعية والاتجاه للسودان.. وطالب باقامة شراكة لتصنيع أو تركيب هذه الآليات في السودان ونقل التجربة وصناعة البذور ونقل التقانة الحديثة للقطاع الزراعي والتعديني والطرق والإنشاءات. مدير المصنع من جانبه قال إن شركته من كبرى الشركات العاملة في هذا المجال، بها آلاف العاملين وتنتج «88» آلية في المجالات المختلفة ولديهم «23» مصنعاً متخصصاً في صناعة الآليات، ويصدرون هذه المنتجات لدول العالم ومن بينها دول إفريقية، ونتمنى أن تثمر هذه اللقاءات مع الوفد السوداني عن إيجابيات كبيرة، وسنلبي كل رغبات السودان وسنعمل على تدريب المهندسين والفنيين السودانيين على استخدام آلياتنا وصيانتها، ونتحمل كل تكلفة التدريب هنا في بيلاروسيا. وأضاف مدير الشركة «نحن مستعدون كذلك لفتح مصنع في السودان لتركيب الآليات، وسننفذ أية اتفاقيات في إطار عمل الدولة، ومستعدون لعمل الدراسات والمسوحات الميدانية من أجل مواءمة المنتجات للمتطلبات السودانية. وتم الاتفاق على توقيع اتفاق ومذكرة تفاهم وتوقيع اتفاقية مع البنك الزراعي السوداني لإنشاء شركة مشتركة تعمل على إنشاء مصنع تركيب الآليات والمعدات الزراعية. وتحدث في نهاية الاجتماع بروف فتحي خليفة ورئيس مجلس إدارة البنك الزراعي السوداني والدكتور صلاح حسن مدير عام البنك، واختتم د. عيسى بحديث عن أهمية بناء الشراكة والاستفادة من الموارد الطبيعية في السودان ودخول التقنية البيلاروسية مجال الزراعة لتكون كل إفريقيا مفتوحة أمامهم. منسك للتراكتورات وفي شركة كبرى أخرى زار الوفد في نفس اليوم شركة منسك للتراكتورات التي تصدر للسودان تراكتورها المشهور البيلاروسي، منذ سنوات طويلة جداً، ويستقبل السودان سنوياً «250» تراكتوراً كل عام، وقال مدير عام الشركة في اجتماعه مع الوفد إنهم مستعدون لشراكة مع السودان وزيادة صادراتهم وزيادة الخدمات التي يقدمونها ومنها التدريب.. وهم مستعدون لتوفير أكبر مخزن لقطع الغيار ولفحص التربة. وتم الاتفاق على إقامة شراكة مع شركة «الثورة الخضراء» السودانية وتكوين مجموعة شركات بيلاروسية لتوفير كل مكونات الآليات الزراعية الحديثة للسودان، ودعا رئيس الوفد السوداني إلى أهمية ميكنة العمل الزراعي لزيادة الإنتاجية وأن يكون محور العمل هو الشراكات الفاعلة. معرض السلاح ومصانع السماد في ثاني أيام الزيارة للوفد، زرنا أكبر معرض في بيلاروسيا يقام سنوياً وتشترك فيه دول عديدة حول صناعة السلاح، افتتحه رئيس الوزراء ووزير الدفاع البيلاروسيين، والمعرض أقيم في صالة ضخمة للألعاب الأولمبية، وفي فناء واسع عرضت فيه الآليات العسكرية الضخمة والطائرات العمودية والطائرات الحديثة بدون طيار والصواريخ «أرض جو»، «جو أرض»، «جو جو» والرادارات وأجهزة الملاحة والمسح الجوي وكل المعدات العسكرية الدقيقة وأدوات الحرب والمراقبة والاتصالات وناقلات الجنود والدبابات والمدرعات والأسلحة الخفيفة والرشاشات وأسلحة القناصة وغيرها.