لم تفلح صيحات النصر التي أطلقها أبناء الجنوب في احتفالاتهم بفصله عن الشمال، في إخفاء صوت غليان المرجل الداخلي للدولة الذي فاتت درجة حرارته حد الغليان، ولم يكن مصدر هذا الكلام صحيفتنا «الإنتباهة»، بل جاء على لسان مواطنيها وكبار المسؤولين في الدولة في بوح شفاف جاء عبر برنامج وثائقي بثته قناة «الجزيرة» وتابعته بفضول كبير، أكد كل الدراسات التي قالت إن الدولة الوليدة تفتقر إلى مقومات الحياة الأساسية، ناهيك عن إقامة دولة لها سيادتها وحريتها، وخصوصاً أن فطامها من أمها جاء دون تجهيزها لأطعمة بدلية. هذا بالضبط ما جاء على لسان جوزيف لاقو، وهو يتجول في أسواق المدن الكبرى التي تشبه الأسواق الطرفية في ضواحي العاصمة، ويسأل البائعة عن معروضاتها التي استوردتها من دولة مجاورة هي يوغندا، فيردد حائراً «ما في شي من هنا كلو من يوغندا؟»، وترد عليه البائعة بسخريه لاذعة «أنا فقيرة أجيب من وين هنا»؟! «إنهم يملكون الأرض الزراعية التي تصلح لزراعة المسامير، ولكن الحرب منعتهم من استثمارها»، هكذا تحدثت مسؤولة التغذية، فحتى بعد توقف الحرب منذ 2005م ظلت هناك مشكلة الترتيبات الأمنية الكبيرة، ووجود جيش الرب الذي شكا مواطن بائس مما يتعرضون له من خلاله، وهناك الكتيبة المرتجلة التي سميت بالحرس وسلاحها الذي يشبه ألعاب الأطفال البدائية من سهام ونبال هي سلاحهم الذي يواجهون به جيش الرب. وجاء تبرير نائب الوالي في المنطقة الذي جاء بسيارة تساوي آلاف الدولارات، بأن هذه المجموعة لم تتلقَ تدريباً، وتسليحها خطر، وسيكون من الصعب استعادة الأسلحة منهم فيما بعد! وهذا الكلام يوضح الجدية التي تتعامل بها المنطقة مع أخطر عصابات إفريقية التي قد تحيل سكان القرية التي تدخلها إلى كومة من اللحم المفروم، وهذا التهاون ليس بعيداً عن الفقر الذي يطحن السكان خارج جوبا الذين يعتمدون أصلاً على المعونات الخارجية ودولة الشمال، والآن أصبح الضغط يوحي بانفجار قد يحدث وتتطاير شظاياه. ورغم الجوع وتحديات المستقبل الضخمة التي يواجهها بالمقابل إفلاس الدولة التي يفترض أن تشيد مدارس ومستشفيات ومرافق للمواطنين وطرقاً تربط العاصمة بالولايات، وتبدو كل هذه سبباً للفوضى في الجنوب، إلا أن لرجال الدولة ومثقفيها رأياً آخر في طاعون الدولة، وهو الفساد وسط المسؤولين، وقالها وكيل وزارة الثقافة بالجنوب الذي تساءل عن السبب وراء شراء سيارات بهذه المبالغ للوزراء، قائلاً: «أين هي سياراتنا التي كنا نستخدمها في الحرب؟» وشنَّ رئيس تحرير صحيفة «سيتزن» هجوماً شاملاً على الدولة ووزرائها المفسدين، مسترجعاً طريقة اعتقاله بواسطة «16» مسلحاً، وهو مواطن أعزل كتب عن فساد وزراء الدولة، وخصوصاً وزير المالية الذي حول «60» مليون دولار لوكيل سيارات ليرسل هذه السيارات للوزراء دون أن يُعاقب، وتساءل وكيل الوزارة عن المباني الراقية التي غزت بعض الضواحي، مؤكداً أنها لمسؤولين بالدولة متورطين في فساد واضح. والدولة التي تعيش فقراً واضحاً ولا تملك سوى البترول الذي لن يغطي أي بند من بنودها، تعاني الرشوة في كل مرافق البلد.. هذا ما باح به محارب في الجيش، ورغم أن الجنوب شيد وحدة مكافحة فساد لكن لا يعمل فيها شيء سوى «اليافطة» المستفزة، وتحدث مدرس مثقف عن اختلاس أموال الشعب المسكين من قبل الدولة التي راهنت بهم لتفصل الجنوب ثم ألقتهم في أول منحنى دون نظرة شفقة.. وأعادتني هذه النقطة لحديث إعلامية من الجنوب قبل الانفصال عن أن الناس في جوبا طبقتان واحدة ترتدي البدل وترتاد الفنادق الفخمة، وفئة مازالت تأكل من مكب النفيات! كما كان واضحاً في البرنامج الوثائقي ب «الجزيرة» عن دولة الجنوب، فمازال الناس طبقتين، ويأتي سؤال: ماذا سيحدث بعد عام؟وماذا بعد إيرادات البترول التي لن تكفي وزراء الدولة وحدهم؟وماذا بعد ثورة المثقفين العُزَّل أمثال نيهال رئيس تحرير صحيفة «سيتزن» والسياسيين الحانقين أمثال لام أكول؟وماذا بعد ثورة الجنرالات أمثال أطور؟!