لم تكن الدرجات العملية العليا منتشرة في بلادنا في أجيال سابقة كانتشارها في جيلنا هذا، ولكن هذا الانتشار أصاب الكثيرين من حملة هذه الدرجات بداء العظمة، وتورم الذات، وتضخم الشخصية، فكم رأينا أستاذا جامعياً يحمل درجة البروفيسور، فلما بلوناه وجدنا رأسه أفرغ من بيت العرس بعد تحرك بص السيرة، وقد يتجاوز الأمر حق اللقب العلمي إلى قلة الحياء، فبعضهم يفرض على من في سن والده أن يناديه بدكتور،«شوف جنس المحن دي»!!! تورُّم الذات عند بعض حملة الدرجات العليا دفعهم إلى أن يتخذ الواحد من نفسه شهادة تمشي على قدمين، فهو دكتور في قاعة الدرس ودكتور في المواصلات ودكتور في بيت البكاء وفي بيت العرس، وفي الإنداية وفي المقابر، وفي الفيس بوك، في كل هذه المواضع يجب وجوباً قاطعا على الناس أن يخاطبوه بلقبه العلمي، وإلا فهم قد ظلموه، ووقعوا في كبيرة من الكبائر، واذكر أن أحدهم نال الدكتوراه بعد سن الخمسين، فتورُّم ذاتياً، وويل لك إن لم تناده بدكتور فلان، ومثله كثيرون، حتى أن بعضهم والعياذ بالله غير مشيته بعد المناقشة، وقبل إجازة درجته من مجلس أساتذة الجامعة، ولا ننسى في هذا السياق البروفيسور الذي عُيِّن والياً على إحدى الولايات، فذهب إلى ولايته مزهوا ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال لأهل الولاية: احمدوا الله أن جعل فيكم والياً بروفيسورا وبروفيسورا والياً، أو كما قال، ولا ننكر تفوق هذا الرجل أكاديميا فهو من أوائل بروفيسورات جامعة الخرطوم، لكن جهله الاجتماعي وميله للفياش أنطقه بهذا الكلام الاستعلائي القبيح. سعى بعضهم إلى نيل الدكتوراه بطرق ملتوية طلبا للوجاهة الاجتماعية في مخاطبته بلقب دكتور، خاصة إذا كانت خصومة حادة مع دكتور حقيقي عالم متواضع لا يرضى أن يناديه الناس بلقب الدكتور، مثل فلان الذي نال الدكتوراه باللف والدوران وذبح ثوراً، وسرعان ما عرف الناس أمره وفاحت فضيحته وفضيحة أستاذه الذي أشرف عليه ومنحه الدرجة، وفضيجة الجامعة التي أجازت الشهادة، فكان الثور المسكين ضحية هذا الفياش، وكان صاحبنا موضع سخرية جميع أهل تلك الجزيرة العريقة التي يسكن فيها، لا سيما أنها جزيرة تعج بالعلماء والمبدعين من التخصصات كافة، وأعرف كثيرين لا يحملون درجة الدكتوراه لكنهم يضعون أمام أسمائهم دالاً ضخمة، وأعرف كثيرين لم يلتحقوا بأية جامعة ومع ذلك خاضوا في غمار الدرجات «الهاملة» فأصبحوا بعون الله دكاترة تزين الدال أسماءهم، كالإمام الشاب الذي يؤم الناس بأحد مساجد الخرطوم وهو متوقف عند الشهادة السودانية حتى الآن، بل كتبها البعض في أبواب منازلهم «منزل الدكتور فلان الفلاني»، وبلغ المرض ببعضهم أنه ادعى الدرجة بغير حق، ففلان اللامع في المجتمع ألصق بنفسه لقب بروفيسور، وأنا أعلم أنه لا ينتمي لأية مؤسسة علمية، ويستحيل نيل هذا الدرجة لمن لم يمارس مهنة التدريس أو العمل في مؤسسة علمية «جامعة مركز بحوث معهد» ولم يشبع هذا مرضه، بل اصطنع له جماعة سياسية وصحيفة كتب في صدرها البروف فلان!! فكل ذي نقص اجتماعي يجتهد ليسد نقصه بكلمة دكتور التي لا تزيده إلا إظهاراً لنقصه، حتى أن أحدهم ذهب ليخطب فتاة، فعرف بنفسه أنا الدكتور فلان!! لكن أهل البنت أدركوا عقدته فردوه شر ردٍ، لأن وعيهم واتزانهم الاجتماعي يدفعهم لاختيار أصهارهم من الذين يحملون صفات الرجل السوداني الأصيل، المتواضع الذي يقدم نفسه من غير استعلاء بدرجة عملية أو منصب. ولا شك أن السعي وراء هذه الدرجات من بعض المرضى الاجتماعيين قد أضعف الروح العلمية في المجتمع، فكثير منهم يكتفي بهذه الدرجة التي نالها ويوهم نفسه أنه بلغ حدا من العلم في تخصصه بحيث لا يجادله أحد لأنه «بروفيسور» في هذا المجال، ولكن يبطل أوهام هؤلاء أن التخصص الذي نالوا فيه درجة علمية تتوافر مصادره في المكتبات وفي كل مكان، كالأدب والدراسات الإسلامية مثلا، فربما تجد قارئاً غير متخصص في هذين المجالين يفوق علمه فيهما الذين نالوا فيهما درجة البروفيسور الفارغة فارتفعت أنوفهم بغير حق. لهؤلاء المرضى نقول إن الألقاب العلمية مكانها الأوراق المتداولة داخل المؤسسات العلمية فقط، أو المحاضرات العامة وما شابه، أما خارج المجتمع فالأسماء المجردة أفضل من كل شيء، لأنك في المجتمع تخالط الناس وينبغي عليك أن تكون مثلهم في الرتبة والتعامل، هذا إن كنت سوياً نفسيا، ولا تحس بنقص تريد أن تكمله بلقب علمي، وهيهات أن تضيف إليك الدكتوراه ميزةً اجتماعية أو مكانة بين الناس، إن لم تكن هذه المكانة لك بحسن معاملتك للناس، وحبهم إياك، فكم من أميِّ لا يقرأ ولا يكتب قد انتفع الناس برأيه واستشاروه في أمورهم فكان خير مستشار، وكم من بروفيسور «مشى يتفولحْ، فجابْ ضقلها يتلولحْ». *** لفتة أخيرة لا يخدعنكم قولهم: نلت درجة الدكتوراه بواسطة الانترنت، فإن شهادات الجامعات في كل العالم صارت قابلة للتزوير!! فكيف بصفحة إلكترونية لا حد لها ولا يعلم موقعها من العالم أحد؟!