إبان حرب ڤيتنام قال الدكتور هنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا ومستشار الأمن القومي الأسبق عن حرب العصابات، «إن خسر الجيش النظامي معاركه في القضاء على العصابات فهو لم ينتصر حتماً، وإن بقيت العصابات تحارب رغم كل هزائمها فهي المنتصرة» احتفت مطلع هذا الأسبوع بعض الدوائر السياسية والصحفية بقرار السلطات المصرية المعلن عن رفض سلطات مصر للجبهة الوطنية العريضة التي يتزعمها على محمود حسنين من إقامة مؤتمرها المزمع انعقاده حسب الإعلان يوم السبت 16 أغسطس الجاري ولمدة أربعة أيام تحت شعار «وحدة المعارضة لإسقاط النظام وعدم التحاور معه». الواضح أن مصر بعد الانقلاب الذي دبر أمره بليل المارشال السيسي حينما كان وزيراً للدفاع بعد خديعة كبرى انطلت على عدد كبير من أحزاب مصرية ومثقفين وبعض النخب وأول من أفاق من تلك السكرة نائب الرئيس الصوري عدلي منصور والدكتور البرادعي والدكتور المفكر عمرو حمزاوي، ولكن الانقلاب سيطر على مفاصل البلاد بالقبضة العسكرية والأمنية الباطشة في أكبر عملية احتيال وسطو على نظام شرعي، وكما هو معلوم كان قائد الانقلاب قد جاء من مؤسسة كبرى وسط المؤسسات الأمنية المصرية وهي المخابرات الحربية التي صنعت حركة «كفاية» وغيرها من حركات، وسخرت كل آلة الإعلام لمشروعها بحثاً ولهاثاً وراء الشرعية عبر أكبر عملية لتزييف الحقائق، وأصبحت تلك الأجهزة الاستخباراتية والأمنية ممسكة بتلابيب كل شيء. وفيما يبدو أن قرار المنع المعلن ما هو إلا عملية خداع كبرى تمارسها سلطة الانقلاب المصري على الإخوة في جنوب وادي النيل، ويبدو أن الخرطوم تواقة لكل بارقة تقارب مع مصر كأنها لم تع درس النصب والاحتيال والخديعة باسم التفويض لمحاربة الإرهاب، وخلف هذا الكائن الخرافي ومواجهته إعلامياً وأمنياً قتل ومطاردة ومعتقلات، والشاهد على الحقائق الأرضية التي تقول إن هناك تحولاً كبيراً حدث في الإقليم بسبب موجات الربيع العربي التي أرقت مضاجع كثير من الأنظمة سيما التي كانت تقود ما يسمى محور الاعتدال المتعاون مع إسرائيل أمنياً ومعلوماتياً، وبعد هذا التحول الذي أحدثته هزات الربيع العربي أضحت تلك المجموعة كتلة إقليمية متحدة قلباً وعقلاً بقيادة الكيان الصهيوني، والهدف الأول والأخير هو وأد كل مشروعات الربيع العربي التي تطيح بكثير من أنظمة تخشى ما تخشى من الديمقراطية وحراك الجماهير. ويحدثنا التاريخ فيما كانت حركة القومية العربية بقيادة عبدالناصر واجهت ذات المصير لولا رسوخ أقدام الدولة المصرية حينها والتفاف الشارع العربي في كثير من العواصم حول عبدالناصر الذي أكد عملياً أنه نصير الفلاحين والعمال والشرائح الضعيفة، وآزره في هذا دعم الكتلة الشرقية حينها، فقاوم كل تلك الأعاصير التي قادتها الأنظمة الرجعية وحلف بغداد، وها هو التاريخ يعيد نفسه، فحركة الربيع العربي وما تحدثه من تحولات أقلقت كثيراً من دول المنطقة لذا أضحى الموضوع تحالفاً إقليمياً عريضاً أسفر عن وجهه وساقيه ويديه ولسانه في الهجوم البربري على غزة. ولقد كشف الصمود الفلسطيني ذاك المعسكر معسكر أبورغال وهو ذاك الرجل الذي قاد جيش أبرهة لهدم الكعبة، ولكن نجا الله بيته العتيق وهلك أبرهة وجيشه وأفياله. والآن تمارس السلطة في القاهرة خدعة كبرى للخرطوم وهي إعلان صارخ بأن القاهرة رفضت قيام المؤتمر واحتفت الخرطوم وتلقت تلك البادرة بل ذاك الفخ المفخخ بصدق ظناً منها أن القاهرة تقوم بدور إيجابي وتقدم رسالة حسن نوايا تجاه الخرطوم والشعب السوداني، متناسية القيادة السودانية كيفية وصول السلطة في مصر إلى ما وصلت إليه والتحالف الإقليمي الكبير ذو الأجندة الآيديولوجية الواضحة المدعومة من بعض الدول العربية مالياً وإعلامياً وسياسياً وحتى معلوماتياً، فخط الإخوة في المعارضة ينسجم تماماً مع هذا المحور الإقليمي بحكم الصراع السياسي الذي تجاوز الأطر السياسية كما قال بذلك وفي تصريح مشهود وزير خارجية مصر أيام العدوان على غزة، إن الخلاف مع حماس خلاف أيدولوجي. على الإخوة في الخرطوم أن يعوا حقائق الأحداث كما يجب، فلقد كانت التجربة واضحة والمشهد فضحته أجهزة الإعلام وسوف يزداد سعار تلك الدول أو ذاك المحور الإقليمي الجديد المتصهين. ولقد شاهد العالم أجمع ما أصاب ذاك المحور بفوز رجب طيب أردوغان، فلقد أضحت تركيا بؤرة التجربة الناجحة والداعمة لدول الربيع العربي وحاجز الصد الكبير في وجوه أصحاب مشروع الردة العربية. أخيراً نقول إن مصر تستخف بالعقول بهذه الخطوة، فملف النشاط المعارض في مصر منذ عهد السادات تتولاه إلى اليوم المخابرات العامة وصاحب الانقلاب المصري خرج من رحم تلك المؤسسة تحكمه أجندة داخلية وذات ارتباطات إقليمية ومن ورائها قوة دولية، فلا يستقيم عقلاً أن تسير مصر بعد التجارب المشاهدة في أزمة وويلات غزة أن تسعى لتهدئة، فيبدو أن تحت الرماد وميض نار سرعان ما يندلع حريقاً بل حرائق كبرى.