ما أن نقنع أنفسنا بأن مسألة الكهرباء قد حلت ونطمئن حتى تمد لنا الكهرباء لسانها ساخرة من سفاهة ظننا وتصديقنا لما يدعي المدعون ويزعمون بأن أزمة الكهرباء قد حلت جذرياً، ومن سفاهة عقولنا نحسن الظن حتى نتبين أن ما قيل وما يقال عن الكهرباء ما هو إلا كذب أشر. لو تذكرنا الضجة الكبرى التي أقيمت في افتتاح خزان مروي وتلك التصريحات بأن وداعاً للقطوعات لعرفنا أن كل ذلك لم يكن صحيحاً. وزير المالية الأسبق الزبير محمد الحسن صرح بأن الكهرباء الحرارية والمائية كلفتا الدولة ستة مليارات دولار مناصفة أى أن كلاً منها صرف ثلاثة مليارات دولار. قبل سد النهضة الاثيوبي وقعت اثيوبيا عقداً بانشاء خزانين مع الصين بتكلفة مليار وتسعمائة مليون دولار لانتاج ستة آلاف ميقاوات من السدين، بمعني أن تكلفة الميقاواط تعادل أقل من ثلاثمائة وخمسين الف دولار، فكم يا ترى تكلفة الميقاوات من خزان مروي الذي صرف آنذاك ما يقارب الثلاثة مليارات دولار، هذه التكلفة التي ذكرت بالنسبة للسدود الاثيوبية لا تشمل الشبكة، لكن أن إنتاج الكهرباء في اثيوبيا معروف، ولكن من غير المعروف انتاج سد مروي الذي إثناء الانشاء تقرر رفعه مترين ليزيد التبخر الى اثنين مليار متر مكعب والتي تعني زراعة مليون فدان ورغم التعلية لم يزد الانتاج، بل صار مبهماً تتحدث عن ضعفه القطوعات التي يعاني منها المواطنون مبرمجة كانت أم غير ذلك. قبل سنوات اقترحت أن تقوم حكومة السودان بالمشاركة مع اثيوبيا في تشييد سدود في اثيوبيا أو تستأجر الأرض التي يقوم عليها السد بايجار سنوي، وهذا أمر شائع في العالم وليس بدعة، ففي جنوب افريقيا أقيم سد في بتسوانا بالاتفاق معها على ايجار سنوي، ومن هذا السد استفادت جنوب افريقيا بالامداد المائي، ونص الاتفاق على ان تدفع بتسوانا قيمة المياه التي إن احتاجت لها لجنوب افريقيا، وكذلك الامر في امريكاالجنوبية!! وقد اقترح الشهيد محمود شريف عالم الكهرباء السوداني اقتراحاً شبيها بما اقترحت، ولكن لم يتم الاصغاء للمقترح الذي تقدم به، والغريب اليوم وبعد اكثر من عشرين عاماً عادوا للمقترح لشراء الكهرباء من اثيوبيا. واذكر تلك الضجة الكبرى التي حدثت في افتتاح خزان مروي وتلك المليارات التي صرفت في ذلك الافتتاح، وأن الكهرباء ستعم القرى والحضر، ولكن كانت الأمر زوبعة اعلامية فارغه، ولا أدري ماذا كان سيحدث لو أن المصانع كانت تعمل بنصف طاقتها ناهيك عن طاقتها القصوى، فالكهرباء أساساً تذهب للخدمات المنزلية والمكاتب، وهذا أقل جزء من الكهرباء، فالكهرباء الحقيقية تدير ماكينات الصناعة ومضخات الزراعة لكن هذا لا يحدث في السودان. فالذي يريد أن تستمر صناعته يقوم أول ما يقوم به هو انشاء محطة كهرباء هكذا تعمل مصانع الأسمنت والسكر وغيرها من الصناعات الضرورية. اذكر أنني يوم افتتاح خزان مروي تقدمت بنصيحة لأحد اكبر موردي المولدات في السودان بأن يضاعف الكمية التي كان يستوردها قبل ذلك الافتتاح. فاقد الشبكات فاق كل التوقعات، فالفاقد المتعارف عليه عالمياً لا يتعدى العشرة في المائة أو الاثنى عشر على أكثر تقدير، ولكن فاقد الشبكة أعلى من ذلك بكثير، بل هو اضعاف ما هو متفق عليه، بعض الأقوال تقول إن المواطن يستفيد بأقل من خمسين في المائة من الإنتاج الحقيقي ويضيع في الشبكة أكثر من نصف الانتاج، ولكن المواطن يدفع قيمة ذلك الفاقد حيث يطالب القائمون على أمر الكهرباء برفع التعريفة. ترفع التعريفة ويبقى الفاقد كما هو، أي أن المواطن يدفع قيمة كهرباء لا يستفيد منها. وحتى عندما يريد المواطن توصيل كهرباء لمنزله يُلزم بأن يشتري كيبلاً أرضياً من العمود الى منزله، وهذا الكيبل غالي الثمن، وقد تم إيصال منزلي بكيبل قطره ثلاثين ملمتراً يتحمل كهرباء بقوة مائة وعشرين أمبيراً، في حين أن العداد الذي بالمنزل لو دخلته كهرباء بقوة اكثر من عشرة أمبيرلاحترق. وأتعجب كثيراً حين أرى في الشوارع العامة أعمدة الكهرباء الهوائية بڤولتية عالية أحد عشرة الف ڤولت وثلاثة وثلاثين الف ڤولت وحتى مائة وعشرة ألف ڤولت تسبح في اجوائنا وتفرز الاشعاعات الضارة ولا أحد يهتم، لكن أن توصل للمنزل مائتين وعشرين ڤولتاً أو أربعمائة وعشرة ڤولت، فأنت ملزم بكيبل أرضي ضماناً لسلامة التوصيل، في حين أن العمود الذي توصل منه للمنزل هوائي وڤولتيه اعلى من ذلك بكثير، أعرف كثيرين دفعوا عشرات الملايين لإدخال الكهرباء لمنازلهم، أما أنا فدفعت اربعة ملايين ونصف المليون فقط ويا بلاش. الصناعة والزراعة والنقل أمور كلها تعتمد على الكهرباء، وكلها شأن تخصصي لا يحتمل أن يديره غير أهله من الذين لا صلة لهم بالكهرباء الا قفل أو فتح مفتاح المكيف أو الاضاءة او التلفزيون، والذين لا يحتملون مسؤولية الاخفاق والخسارات التي تعاني منها البلاد جراء الادارة السيئة لأهم مرفق في البلاد مرفق الكهرباء.