ربما استدعى الرجل المغروس ك«شِعْبة» قديمة من أعواد شجر الدروت، في قلب مدينة نيالا، في بدايات العشرية الثانية من هذا القرن مقولة كُتِب لها الخلود، قالها الشاعر الكبير الراحل صلاح أحمد إبراهيم،كأنه يودِّع بها الدنيا، في لقاء مرئي بالتلفزيون عند الهزيع الأخير من القرن الماضي. «لم يعد في العمر ما يكفي لبدايات جديدة»!! والرجل الذي صار مثل الوشم في الجزء الشرقي من المدينة، بعد أن سرق العمر منه نضارة الحياة، وندى الأعين، وجسارة الآمال، وطلاوة الحديث، وحِلية المخبر والمظهر، ووقع من صهوات المجد الكاذب، وكان كالذي يعاني من نزيف الوقت بعد أن تسرّب العمر والزمن.. يقف عند المفترق تتصاهل حوله خيول الحيرة والسأم!! لعله كان مثل الشاعر الفلسطيني «تركي عامر».. حين يصيح: ما أعذب تفريغ العذابات في كوب النهار وما أصعب اجتياف المراراتِ في وضح الليل أخرجوا عذاباتكم من مدافنها أيُّها المتعبون الطيِّبون مازال المطر يعرف كيف يطفئون الحرائق والشمس لم تتسخ بعد قادرة على تنظيف الغسيل.. «ب» في مدارات السنوات السبعين من القرن الماضي، ظهرت طبقة من السياسيين المحترفين، مع تجليات الاتحاد الاشتراكي السوداني في العهد المايوي، واصطادت جوقة مايو فرائسها من هذه الأيائل السياسية الخفيفة الحركة الرشيقة القفز القادرة على فرز النباهة من الاستحمار. كان صاحبنا هذا من زجاج المرايا في تلك الحقبة الزاخرة بعد المصالحة الوطنية، ويصلح هو وأترابه السياسيون المحليون الذين توامضوا في ذاك الأوان، أن يُعتبروا الجذر التاريخي الذي ينتمي إليه نهج وسلوك بعض محترفي السياسة الآن، من غير ذوي التوجهات الفكرية ومن لم تأخذهم دوغما الأيديولوجيا اللزجة الرطبة... بعد المصالحة، ظهر صاحبنا على مسرح الحياة العامة كأيقونة محلية باهرة، يشبه علامة تجارية براقة ولامعة... وهو في الأصل، ضئيل المعرفة، قليل التعليم، ضخم الجثة، نظيف الثياب، جهير الصوت، سريع البديهة، تبرق عيناه كنسرٍ مخلوق من نار، له مشية موقعة كراقص باليه حاذق، يرتدي مركوباً من جلد النمر، وعصا أبنوسية لامعة اعتاد دهنها بزيت خاص كلما همَّ بالخروج، جلده يكاد يتنزَّى بشحمه الذي ملأ جسده، تكرَّش بطنه، وبدت أصابع يديه وقدميه ممتلئة ومكتنزة مثل أصابع النقانق..!! كان حاضر التعليق إذا خوطب، يستمطر إجاباته عن كل سؤال، من أقصى غيوم الخيال، بارعاً إذا كذب، ساحراً حين ينافق، ضعيفاً إذا خاصم، مقيتاً إذا طمع. بهذه الخِلال والخِصال، عاش الطقس المايوي كله، كَنَزَ وادخر من فتات الأموال ما استطاع، سجّل لنفسه أراضيَ سكنية ومتاجرَ في السوق الكبير وكشكين في سوق «أم دفسو» أكبر سوق شعبي في العالم كما يقال آنئذ.. واغتنى من اتحادات التعاون ومواد التموين ولجان التنظيم وأماناته، والرحلات المحلية التي كانت تأخذه إلى الأرياف، ولكم كان مشهداً مألوفاً وراتباً وهو يجلس في المقعد الأمامي لعربات اللاندروفر القديمة، يتنقل في مهمات سياسية للأصقاع القريبة أو القصية النائية.. تتجسد فيه الصورة التي رسمها الشاعر اليمني الكبير د. عبد العزيز المقالح: مشيتُ بأقدام قلبي لعلي أحسُّ في الأرض صدقا لعلي أعانقُ حقا مشيتُ مع الشمسِ غرباً رحلتُ مع الفجر شرقاً وجدتُ.. يهوذا.. هنا يأكل الجائعين ويسمعُ أقوالهم في شجاعة كان يداعبهم خائفين يأكلُ أحلامهم في براعة «يهوذا» هنا.. وهناك الأمين وصاحبُ كل الطقوس المباعة ونحن البضاعة ونحن الجموعُ المضاعة «ت» عندما دوَّل الخالق الأيام بين الناس، وطويت صفحة مايو، لم يكترث الرجل، فغاب مثل القمر وراء السحب الداكنة، ثم ظهر في ثوب طائفي مزركش قشيب، بزغ كشمس صيفية لافحة، طفا مثل زبد البحر، وانضم لأحد الأحزاب التي تقيأتها الطائفية السياسية، لا ندري بأي وجه وتبرير، لكنه سرعان ما اعتلى المطيّة الجديدة في تزاحم المطايا، رغم اشتداد الهجوم والوطأة على مايو وسدنتها حينئذٍ، لكنه بقدرة قادر نجا من كل انتقاد نقياً من كل مثلبة، وكان في أعلى جبال التصنُّع السياسي يطبع وجهه في النجم إنساناً جديداً، كما يقول محمد مفتاح الفيتوري .. وغدا واحداً من وجهاء الحزب وأركانه في المدينة، لبس للحالة الجديدة لبوسها، واستطاع أن يُنسي الناس ويمحو عن ذاكرة المكان والزمان صورته السابقة، وركب هودج الديمقراطية الثالثة كعروس الرياح التي لا تعرف ملامحها، ولا كيف تتناثر ذؤابات شعرها في الفضاء.. في هذه المرحلة الجديدة، حفظ الأدبيات السياسية الضحلة وخاض في وُحولها، ولوّث الليالي السياسية بما علق في رجليه من طين الوحول، وسكب مرارات الذبول، ودمج نفسه في دوائر الصراع المحتدم، ودخل لجان الحزب المختصة بالترحيل والخدمات والمال، فازداد الشحم تحت الجلد، واكتنز اللحم، وسار خلفه بعض الطامعين، وصار بيته مزاراً للراغبين في وعود الحزب السراب.. كانت كل الموائد مفتوحة لشرهٍ باذخ لديه، وكل الأمكنة التي تظهر فيها رغوة المطامع، هي أمكنته الحبيبة وحبه الأثيري الجديد.. «ث» ومع أول موجة أثيرية حملت المارشات العسكرية للإنقاذ في 1989، كان صاحبنا الذي له أذن كآذان الباعة في مناطق الجزيرة في قصيدة قطار الغرب لمحمد المكي إبراهيم: «لهم آذان تسمع رنّة قرشٍ في المريخ..» استطاع بأذنه التي تعرف تمييز الأشياء، التيقُّن بأن موسماً آخر قد جاء، وأن الملعب تغيّر بلاعبيه ورواده، فتمهل قليلاً في الأيام الأولى، ثم اندفع بقوة ألف حصان نحو الملاذ الجديد... كفارس من القرون الوسطى في ميدان الحرب الإنقاذية وساحة عروضها. وكسياسي محترف يعرف كيف يطوِّع قدراته لمزامير التوجُّه الجديد، ومثل ثعبان الكوبرا يتراقص مع حركة مزمار العازف الهندي الحصيف.. اعتلى صهوة السلطة الجديدة، وتغلغل في مسامها وخلاياها، وجرى في دمها وعرف شرايينها وأوردتها، دخل مجالسها المحلية، وأبى أن ينافس على بعض المواقع التي تبعده عن مجالاته الحيوية، فازدادت قطع الأراضي السكنية والدكاكين، وانتفخ البطن أكثر، وزاد الخصوم أكثر... وحفظ عبارات الاستحسان الديني في لغة الخطاب والتعاملات والمعاملات والمجاملات التي توهجت في مسمع النظام الحاكم وحركته الإسلامية، استطاع أن يزاوج ما بين الوردة والسيف، والنار والماء، والكذبة البلقاء وأنّات المخبتين في المحاريب.. لم يكن يقف أمامه شيء، تفتقت مواهبه، في اجتذاب أحلامه وتحقيقها.. وليت أحلامه كأحلام أشعب في قصيدة محمد الماغوط.. «من مذكرات أشعب»: على مسافة معينة من أسناني كانت سنابل العشب تتمايل بكل غناها وخصوصيتها وكلما كانت المواجهة.. فقدت شهيتي ومقاومتي الشعرية واغتنمت أول فرصة منطلقاً بكامل لياقتي البدنية والعقلية فوق السنابل والمناجل والإهراءات إلى الصدر الناهد بالجياع والضحايا والمتسولين لأمثل بهم صباح مساء ثم تمددت بسيفي وصرخت يا عمال البحر، قليلاً من الهدوء لأتابع حلمي لا أريد فلسطين ناقصة زيتونة واحدة والحجاز آية واحدة والعراق نخلة واحدة ولبنان أرزة واحدة والجنوب عملية واحدة والجزائر مجزرة واحدة والسودان فيلاً واحداً والنيل قطرة واحدة والغوطة شجرة واحدة وأنا واثق بأنني سأعيش بقدر ما أحلم «ج» عاش سنوات الإنقاذ بقدر ما حلم ويحلم.... قابلته أخيراً في نيالا، بعد خسوف الألق، ورحيل الأيام، وعجز البدن، وخريف العمر، فقد وهن القلب وخانه الجسد، وعافته الحياة، فلم يعد قادراً على السباق مثل الجواد الهرم، صار مثل الديك الذي نتفت الأيام والرزايا ريشه المحمر الجميل.. قال لي يحكي السحب منتحباً، في ما يشبه الحكمة: «في دنيا السياسة.. لا تقدر على مطاردة الكلاب.. وأنت في ما بعد السبعين..». خَفَتَ في عينيه ذاك البريق الطامع، ظهرت عليه آلام الكرسي، وهي قسوة السلطة وألم الساقين والظهر.. صار مثل المومياء السياسية، ينظر إليه الجميع في عجب دون أن يحيي فيه روح الأمل أحد.. قلت له.. وهذه المواسم السياسية وقصاع الأحزاب الممدودة .. أين أنت منها؟.. قال في أسىً بالغ: «لا أستطيع الذبح بسكين دكماء»!! ربما تنهد ثم تنهد وردد ما يشبه مقولة صلاح أحمد إبراهيم: «لم يعد في العمر ما يكفي لبدايات جديدة..».