وفي طريقه من العراق سائرًا تلقاء نجد مر بديار الأحساء ونزل بها، حيث واصل طلب العلم على مذهب فقهي مختلف هذه المرة، هو المذهب الشافعي، وذلك على يد الشيخ عبدالله بن محمد بن عبداللطيف الأحسائي. وهنا رفد ذلك الشيخ الكريم تلميذه النجدي الوافد لتوه من العراق بدم جديد غذى معارفه وقواها، ولا غرو فالتلميذ كان متأهباً لذلك بطبيعته واستعدادته الأولى، حيث لم يكن جامداً على المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه. ولكنه كان يتطلب العلم الشرعي في أطر المذاهب الفقهية جميعاً، من أي مصدر جاء ذلك العلم، ولم يكن يتردد في رفض الرأي الذي استقر عليه مذهبه، إذا ما وجد الحق مشفوعاً بالدليل في نطاق مذهب فقهي آخر مغاير. جهد الاطلاع الخاص وبجانب تلقي محمد بن عبدالوهاب العلم على الشيوخ، فقد كان له اطلاعه الخاص على أبواب العلم الشرعى، حيث يتوقع من كل طالب علم نابه ناهض، أن تكون له ميوله واختياراته الخاصة في الاطلاع. ومن هنا جاء اطلاع الشيخ الوافي على التراث القيمي/ التيمي. وهذان إمامان امتاز تراثهما الأصولي والفقهي بالعمق والصفاء، والجرأة الفكرية، وامتزجت الروح العلمية فيه بروح العمل والدعوة، بالنزعة الإصلاحية التجديدية المتأججة. وهي السمات التي انطبعت في ذهن ووجدان الطالب الناشئء محمد بن عبدالوهاب وأثرت في توجيه حياته الفكرية وسيرته العلمية والعملية في المراحل اللاحقة. ولا ريب أن اطلاع محمد بن عبدالوهاب على أمهات كتب التراث الفقهي سواءً في مذهب الحنابلة أو سوى ذلك من المذاهب كان واسعاً وعميقاً، يدل على ذلك استشهاده بتلك الكتب استشهاد العارف الخبير بمحتوياتها التفصيلية، لا استشهاد المطلع العابر الذي يستل منها المسائل فرادى على عجل. إن إشارات الشيخ إلى الكتب التي اطلع عليها لتؤكد أنه راجعها مراراً وتكراراً وتمرّس بنصوصها تمرس الخبير الذي يستطيع أن يتحقق من النقول والاقتباسات التي تقتطع منها والتأكيد على ما إذا كانت اقتباسات سليمة راعت مناهج البحث والعلم، أم أنها كانت نقولاً قد اقتطعت بتعسف من السياق فخرجت مختلة المعنى. ويكثر الشيخ ابن عبدالوهاب في كثير من كتاباته الحوارية من الاستدلال بكتب متأخرة الشافعية كالإمام البيهقي، والإمام البغوي، والإمام اسماعيل التميمي، ومن جاء بعدهم، كالإمام الحافظ الذهبي، ومتقدمي الشافعية كالإمام ابن سريح، والإمام الدارقطني استدلال من استوعب كتبهم ونخلها نخلاً. ويبدو أن الشيخ اطلع اطلاعاً واسعاً على الكتب الأساسية في مسائل الفقه المالكي، ولا سيما كتب الإمام أبي بكر الطرطوشي الأندلسي، التي وجهت لمحاربة البدع التي كانت سائدة في عصره، وهذه الكتب يبدو أنها أثرت في محمد بن عبدالوهاب تأثيراً شديداً في عهد النشأة والطلب. كذلك اطلع الشيخ على أهم كتب المذهب الحنفي مثل «درر البحار» للشيخ قاسم الحنفي وغيره، وقد أولى الشيخ عناية خاصة بدراسة كتب الحديث النبوي بشروحها المتنوعة، لأنها تحتوي على أدلة الشريعة والفقه وعلى تفاصيل الأحكام، وبذل جهده لتحصيل لباب شروح صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داوؤد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والموطأ، ومسند الشافعي، وذلك بعد أن قرأ أقساماً منها على شيوخه واستوعب منهجية التعامل معها. وللشيخ محمد بن عبدالوهاب آراء في نقد بعض كتب التفسير المشهورة تشهد له بطول باع في الاطلاع عليها، والتأمل فيها، الأمر الذي أتاح له معرفة جوانبها المختلفة، والتمكن من هضم محتوياتها، وموازنة بعضها ببعض، ومن ثم قام بتفضيل الكتب التي اعتمدت منهج التفسير بالمأثور على غيرها من كتب التفسير. لقد استفاد الشيخ كثيراً من جهد الاطلاع الخاص، إذ قويت به ملكته العلمية وزادت به حصيلته من الفقه، وتأصل به منطقه في الحوار. وانعكس ذلك كله في شخصية الشيخ وقوته التأثيرية في الدعوة والإصلاح. ولكنه عاد إلى تلك الكتب بعد ذلك ليقربها إلى أفهام الناس، وييسر لهم عن طريقها بلوغ مقامات العلماء، فقام باختصار بعضها من أجل أن يقربها إلى أفهام طلبة العلم، ومن هو في حكمهم. وكان في طليعة تلك الكتب التي قام الشيخ بتشذيبها وتهذيبها كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد» لابن قيم الجوزية وكتاب «مختصر سيرة الرسول» لابن هشام وكتاب «مختصر الإنصاف والشرح الكبير»، وهو أكبر كتاب للشيخ محمد بن عبدالوهاب، وبه اختصر كتابين من كتب الفقه الحنبلي هما «الإنصاف» للشيخ علي بن سليمان المرداوي، وكتاب «الشرح الكبير» للشيخ عبدالرحمن بن عمر بن قدامة. وما تزال هذه المختصرات متداولةً بين طلبة العلم من مختلف المستويات، تصعد بالمتبدئين في السلم العلمي إلى أعلاه، وتعين من تعودوا على الغوص في الأمهات على تلمس مسائلها الكبرى بيسر في تلك المختصرات. هكذا كانت رحلة الشيخ في طلب العلم كانت ذات حصاد وفير، أسهم في إثراء وإنضاج عقليته، ورفدها بعلوم متنوعة، ونفحها فضلاً عن ذلك بروح الأريحية العقلية والمرونة والحكمة الملحوظة في التعامل مع القضايا التي كانت مثار الخلاف بينه وبين سواه من علماء ذلك الزمان. تلك المرونة الفكرية التي ميزت حياة الشيخ وجهاده الحواري الدعوي كانت هي المكتسب الأكبر لتجربته المعرفية الطويلة. فقد كانت حياة الانقطاع في جوف الصحارى في نجد، قد أودت بأكثر التطلعات العلمية بتلك البلاد، فبادت بذلك الملكات، وخمدت الهمم، وتقاعست العقول. ولذلك لم يسجل مؤرخو تلك العصور ظهور علماء كبار مجتهدين ذوي نزعات إحيائية إصلاحية ملتهبة بروح الدعوة والجهاد. وقد انصبت اهتمامات معظم علماء ذاك الزمان على تفاصيل الفقه المشهورة، وشؤون الفتيا فيها، والقضاء في المسائل المتكررة. وذلك من دون أن يتصدوا لتصحيح عقائد الناس المنحرفة، أو يقوموا بواجب الدعوة، أو ينهضوا بواجب الإصلاح الاجتماعي. وبذلك ظلت انحرافات العقيدة على حالها، كما استمر انفلات الحياة الاجتماعية دون أن يتصدى له عالم مصلح مؤهل مرموق، ذو حصيلة علمية كبرى، وأفق فكري منفسح، وسماحة مذهبية تتجاوز الجمود والتعصب للمذهب الفقهي السائد. وهذا ما تهيأ للشيخ محمد بن عبدالوهاب إذ قام في عمله الإصلاحي التجديدي الشامل، على خلفية علمية قوية، جاءت حصيلة لتتلمذه الواعي المثابر على أكثر من عالم واحد، ولتنقله من مجمع علمي إلى آخر في عدة أقطار. ولقضائه أكثر سنوات حياته وشبابه في الترحال في طلب العل. ،فكلما عرف خبراً عن عالم مجتهد ناهض مجد في نشر العلم شد إليه الرحال، ومكث عنده ملياً، حتى استخلص واستنفد أهم وأعظم ما عنده من معارف وعلوم. وبتحصيل الشيخ محمد بن عبدالوهاب لمجموع تلك المعارف الحيّة الخصبة، التي لم تتكامل لطالب علم جاد سواه بنجد، أصبح هو المؤهل الأول لكي ينهض برسالة العلم، والدعوة، والإصلاح، والتجديد، ودفع دم جديد في شرايين الحلقات العلمية في تلك البلاد، وهو ما نجح في أدائه و تحقيقه بامتياز تام. وقد يكون المفكر الجزائري مالك بن نبي محقاً عندما أشار إلى استقاء ابن عبد الوهاب من فكر ابن تيمية قائلاً: أما الحركات التغييرية التي قامت في العصور المتوسطة على اجتهاد فردي، مثل اجتهاد ابن تيمية، فإن أثرها لم يبق إلا في التراث الإسلامي، حيث تكونت الترسانة الفكرية، التي لا زالت تمد الحركات الإصلاحية بالأفكار النموذجية إلى اليوم. وقد عبر عن المعنى نفسه بصورة أخرى البروفسور عبدالله التركي إذ قال:إن بين عصر ابن تيمية وعصر ابن عبدالوهاب، رحمهما الله تعالى، أربعة قرون تقريباً، ولم تخل هذه القرون الأربعة من داعية للحق، قائم بعقيدة أهل السنة والجماعة، بيد أنه لم ينهض أحد بمنهج ابن تيمية، كما نهض به بقوة ووضوح شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، خصوصاً في الناحية العلمية. فقد كانت كتب ابن تيمية وسيرته الجهادية منهجاً متكاملاً بين يدي الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الذي عزم بحول الله وقوته على تجديد شُعَب الإيمان في منطلق الرسالة، وكنف الحرمين الشريفين. ومهما يكن فقد كان محمد بن عبدالوهاب تلميذاً من نجباء تلاميذ شيخ الإسلام بن تيمية، ومجاهداً سلفياً مقتفياً أثره، وأثر السلف الصالح، من الرعيل الأول لدعوة الإسلام.