من لطائف الإعترافات أن قومًا وجدوا في طريقهم درويشاً يلبس (مرقعة) فقالوا له لماذا لا ترمي الخِرقة؟ قال إذا رمى الصياد شبكته فكيف يصطاد؟. 2 كان المتصوفه قديماً أصحاب رقائق وإجابات مذهلة وأشعار ورؤى فيا ليت أدعياء اليوم يساعدوننا بالصمت، ومما قرأته في المواجهات الثنية لقاء سعدون المجنون بذا النون المصري، قال أصحاب المواجد أن سعدون المجنون وقف على حلقة ذو النون المصري في الفسطاط فسأله يا ذا النون متى يكون القلب أسيراً؟ فقال ذو النون: إذا اطلع الخبير على الضمير فلم ير في الضمير إلا الخبير. فصعق سعدون، وأنشد: ولا خير في شكوى إلى غير مشتكى ولا بد من شكوى إذا لم يكن صبر يا أبا الفيض إن في القلوب قلوباً تستغفر قبل أن تذنب. قال: نعم تلك قلوب تثاب قبل أن تطيع. 3 ومن غرائب ما وجدته في وصف الرجال ما لا كنت أتوقعه انه سأل أبو حيان رجلاً كان عند الصاحب: كيف وجدت الصاحب؟ فقال: هو كالحر لا يعود اليه من خرج منه!. 4 هنالك الكثير من أهل الفقه والفتوى الذين يتغيرون تسامحاً أو تجملاً أو رهبة أو رغبة إذا وقفوا أمام السلاطين إلا الفقيه مقاتل بن سليمان فقد كان من القلة الذين لا يبالون ولا يتجملون إذا وقفوا أمام السلاطين ومن حكاياته أنه في مرة ألح الذباب على المنصور في مجلسه حتى أضجره (وكان معروفًا بالشدة والقهر وشِدة العارضة) فقال: أنظروا من بالباب من العلماء فقالوا مقاتل بن سليمان فأدخلوه وأبتدره بالسؤال: لماذا خلق الله الذباب؟. وعاين مقاتل تبرم المنصور فأجابه: لكي يذل به الجبابرة. 5 حضر عند عمر بن عبد العزيز وفد من الحجاز إختاروا غلاماً منهم ليتكلم عنهم وحين هَم الغلام بالكلام إعترضه عمر قائلاً: مهلا يا غلام ليتكلم من هو أَسَنُ منك. فرد عليه الغلام: مهلاً يا أمير المؤمنين إنما المرء بأصغريه لسانه وقلبه ولو كان التقدم بالسن لكان في هذه الأمة من هو أَسَنُ منك. فقال عمر: تكلم. لو كان هذا الغلام في زماننا هذا وأكمل دراسة الفقة والشريعة والقانون المدني لكنا نصحنا المحامين بالسودان أن يبحثوا لهم عن مهنة أخرى. 6 وأذكر أني قد نصحت يوماً الراحل الدكتور معتصم عبد الرحيم وكان وزير التربية بأن يقرر ديوان الإمام الشافعي على طلاب المدارس الثانوية دراسةً وحفظاً وتفسيراً فالديوان صغيرُ الحجم كبير المعاني والتدبر والتفكر فإن قراءته تنفع الطالب والمعلم قبله ويُحصن المشاعر من الذلل والألسن من العُجمة وفي حق التعلم الذي يرفع الصغير والجهل الذي يخفض الكبير أبياته المتداولة: تَعَلَّمْ فَلَيْسَ الْمَرْءُ يُولَدُ عَالِمًا وَلَيْسَ أَخُو عِلْمٍ كَمَنْ هُوَ جَاهِلُ وَإِنَّ كَبِيرَ الْقَوْمِ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ صَغِيرٌ إِذَا الْتَفَّتْ عَلَيْهِ الْجَحَافِلُ وَإِنَّ صَغِيرَ الْقَوْمِ إِنْ كَانَ عَالِمًا كَبِيرٌ إِذَا رُدَّتْ إِلَيْهِ الْمَحَافِلُ وأذكر أن عمنا الراحل الأنصاري الصادق محمد احمد الشيخ (الجبلابي) وكان صديقاً للوالد يضع في مقدمة محله للأقشمة في سوق الجملة أبيات الإمام الاشافعي بخط عربي مليح وفي برواز يسر الناظرين: لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن وعيناك إن أبدت إليك معايبا فدعها وقل يا عين للناس أعين. 7 قيل أن أبو موسى المكفوف كان من ظرفاء عهده وقد حكم عليه قاض المدينة في مسألة تافهة بالتغريب والجلد والغرامة فأغضبه الحكم وحز في نفسه وأصبح يبحث عن مقولة يُردِي بها القاضي وتسير بها الركبان حتى أتته الفرصة تجُر أذيالها فقد أتى نخاساً (بائع حيوانات) فقال له: أطلب لي حماراً ليس بالصغير المحتقر ولا بالكبير المشتهر إن خلا له الطريق تدفق وإن كثر الزحام ترفق، لا يصدم بي السواري ولا يدخل بي تحت البواري، إن أكثرت علفه شكر وإن قللته صبر، إن حركته هام وإن ركبه غير نام. فرد النخاس: يا أبا عبد الله أصبر فإن مسخ الله القاضي حماراً أصبت حاجتك. 8 وكان هنالك مجموعة من صبيان مكة يطوفون حول البيت ويتسمعون غرائب الدعاء ويوثقونه للتداول والملاطفة والأُنس وهذا باب كبير، ومما كانوا يذكرونه ويتسمونه بالرضا توثيقهم لدعاء أحد الأعراب الفقهاء الذي تعلق يوماً بأستار الكعبة وصار يدعو شعرا: يارب إني سائل كما ترى مشتمل شميلتي كما ترى والبطن جائع مني كما ترى فما ترى يا ربنا فيما ترى! 9 قيل في وصف كرمان وهي مدينة بآسيا الوسطى أن ماؤها وشل وتمرها دقل (تمر صغار معروف في العراق) ولصها بطل إن قلّ الجيش بها ضاعوا وإن كثروا جاعوا. وهو وصف لم أجد له مثيلٌ في بلادنا إلا مدينة الضعين حين أحتلها الأوغاد فصار ماؤها وشل ولصها بطل. 10 من كبار أهل التوبة في تاريخ الأدب والشعر العربي من الذين أسرفوا على أنفسهم ثم آبوا وتابوا وقدموا بين يديه توبتهم وندمهم إعترافات ومرافعات أبو العتاهية والحسنابن هاني (أبو نواس) فمن صادق قوله في أُخريات أيامه قصيدةٌ أنشدها القوم وسارت بها الركاب: يا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنوبي كَثرَةً فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ إِن كانَ لا يَرجوكَ إِلّا مُحسِنٌ فَبِمَن يَلوذُ وَيَستَجيرُ المُجرِمُ أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعاً فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ ما لي إِلَيكَ وَسيلَةٌ إِلا الرَجا وَجَميلُ عَفوِكَ ثُمَّ أَنّي مُسلِمُ ومن أغرب ما حكي عن توبته أن أحد أصحابه رآه في المنام فقال له: ماذا فعل الله بك يا أبا نواس؟ فقال غفر لي بأبيات قلتها في النرجس وهي تحت وسادتي فذهبوا لمنزله وطرقوا الباب وفتحت أمه (جُلُبان) فقال لها رأيت أبا نواس في المنام وقد قال أن الله غفر له بأبيات هي تحت الوسادة فدخلوا فوجدوها في رقعة بخطه: تأمل في نبات الأرض وأنظر إلى آثار ما صنع المليكُ عيونٌ من لجينٍ شاخصات بأبصار هي الذهب السبيكُ على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريكُ