أجواء علاقاتنا مع الجارة الشقيقة ليبيا هذه الايام ملبدة بالغيوم، وتمر بوعكة نرجو ان يعمل الجانبان على الخروج منها عاجلاً وبتعافي كامل، وهذا هو الاقرب للحدوث، فما حدث لا يمكن توصيفه بأي حال من الاحوال بالأزمة والأمر كله لا يعدو ان يكون «سوء فهم» من الجانب الليبي نتيجة إلتباس وسوء تنسيق فيما يتعلق بهبوط الطائرة السودانية على الاراضي الليبية وهي تحمل مؤن غذائية وذخائر لتزويد القوات السودانية الليبية بها في إطار الاتفاق الامني الموقع بين البلدين والذي يهدف الى حماية الحدود المشتركة بين البلدين. فالراوي السوداني أكد على أن قائد القوات الليبية قد اعطى الاذن للطائرة بالهبوط بمطار الكفرة الليبي ضمن إجراء روتيني معتاد جرى عليه الحال وسبقت هذه الرحلة رحلات عديدة في نفس الإطار . والاتهام الليبي للسودان بإنتهاك اجوائه والادعاء بتقديم السودان الدعم اللوجستي للجماعات المناوئة للحكومة الليبية تأسس أصلاً على واقعة هبوط الطائرة السودانية. وبنظرة سريعة لتاريخ العلاقات السودانية الليبية في حقبة القذافي نجد ان التوتر والسوء كانا الطابعين الاساسيين لهذه العلاقة. فقد كانت ليبيا القذافي مصدر زعزعة دائم ومستمر للأمن والإستقرار في السودان طيلة ما يربو على الاربعة عقود، هذه الزعزعة لم تقتصر على الجانب الأمني بل طالت الجوانب الأخرى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، كان نظام القذافي مثل نافخ الكير لم يسلم من أذاه أي نظام وكان جواره جوار من لا تؤمن بوائقه. وقد أحسنت الحكومة السودانية فعلاً بإدارتها للعلاقة مع ليبيا القذافي بكثير من الحكمة والصبر والتجاوز فقد كانت الحكومة وطيلة عهد القذافي تحرص على الحفاظ على شعرة معاوية سليمة دون قطعها رغم ما كان يقوم به القذافي من تجاوزات وتدخلات كانت كفيلة وحدها لولا تلك الحكمة من جانب الحكومة، لإشعال الحرب بين البلدين أو على الأقل قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما وانسداد كل القنوات التي يمكن أن تصل بينهما. وحسناً فعلت الحكومة أيضاً وهي تقوم بإدارة علاقاتها مع ليبيا عقب اندلاع الثورة الليبية ضد نظام القذافي حيث تحلت بالتروي والتزمت جانب الكتمان في مساعدتها للثوار الليبيين حتى أن كثيراً من المراقبين كانوا يتساءلون عن مغزى الموقف «الضبابي» غير المفهوم من جانب الخرطوم في تلك الايام والبعض أعاب عليها موقف الحياد الذي تبديه واصفين ذلك بسوء قراءة لواقع الأحداث ومآلاتها بعد الثورة. ولولا أن المجلس الوطني الانتقالي في ليبيا عقب الثورة بادر بكشف النقاب عن ذلك الدعم الكبير الذي قدمه السودان للثوار لما صدق أحد ذلك، ولاصبح في طي الكتمان ولكن كانت الشهادة من أهلها. وهذا ما يعطي السودان شهادة براءة من الاتهامات الليبية الاخيرة، لأنه وببساطة ليس من المنطقي ان ينقض السودان غزله بيديه وان يهدم ما بناه، وليس من مصلحته ان تعم الفوضى وعدم الاستقرار في ليبيا لأن ذلك يؤثر عليه سلباً ويعتبر مهدداً مباشراً لأمنه القومي. الفرصة الآن مواتية للدبلوماسية السودانية مسنودة من قبل جهاز الامن والمخابرات والقوات المسلحة لشرح الموقف السوداني وإزالة اللبس الذي حدث بالوثائق والبراهين وإلتزام «النفَس الهادئ» في التعاطي مع هذا الملف لإطفاء كرة النار وهي صغيرة قبل ان تتدحرج لتقضي على اخضر العلاقة ويابسها. وذلك من اجل إعادة بناء علاقات ممتازة بين البلدين تكون أنموذجاً يحتذى للعلاقات بين الدول في المحيطين الإفريقي والعربي. وبالرغم من أن الملف الأمني هو الملف الأهم في هذا التوقيت بالنظر إلى طول حالة المخاض التي مرت بها الثورة الليبية والتقاطعات الدولية التي كانت لها أدوار لا يمكن تجاوزها في مسيرة الثورة، إلا أن العلاقات مع ليبيا وحتى تؤتي ثمارها وتنجح وتمضي إلى غاياتها وأهدافها، لا بد من الإنطلاق بها على عدة مسارات أخرى في تزامن مع المسار الأمني، فالتعاون الاقتصادي يعتبر المسار الأكثر أهمية لأن نجاحه يساهم بشكل مؤثر وبناء في تحقيق التقدم والنجاح في المسار الأمني وبالتالي يلقي بآثاره الإيجابية المطلوبة والمرجوة في المسار السياسي. ومن المقومات المهمة في تطوير العلاقات السودانية الليبية ايضاً أن تظل هذه العلاقات مباشرة دون وسطاء ودون تقاطعات من قوى دولية من خارج الإقليم، وهذا يقع قسط كبير منه على الجانب الليبي الذي عليه ألا يفتح الباب أبداً لدخول الوسطاء ولا بقبول أية تحفظات أجنبية على علاقات ليبيا وسياستها الخارجية، وان تفوت الحكومة الليبية الفرصة على كثير من القوى الدولية المعادية التي لا تريد أن تنشأ أوضاع جديدة في الإقليم تصب في مصلحة الشعبين، بعبارة أخرى فإن هذه القوى الدولية تسعى للحيلولة دون نشوء علاقات قوية ومتينة بين ليبيا والسودان.