هذه الذكريات يعود تاريخها إلى سبعين عاماً من الزمان، ولكن الذاكرة تختزنها وكما يقول علماء النفس إن الذاكرة قد تعي أيام الطفولة كلها وما بعد الطفولة حينما يتقدم العمر قليلاً تزدحم الذاكرة بأمر الحياة ومشاغلها، وقد لا تعي الذاكرة إلا قليلاً وكانت مما أذكره تختزنه الذاكرة جئت إلى المدرسة الأولية بالدامر وكانت الحرب العالمية الثانية تضرب قنابلها بمدينة عطبرة المجاورة للدامر، وحينما تحلق الطائرة في السماء يأمرنا ناظر المدرسة في ذلك الزمان محمد إبراهيم عبد اللَّه أن ندخل الخندق المحفور تحت الأرض ونجد لذة في الاختفاء داخل هذا الخندق ونحن صغار نلهو لتلك الأيام، وما كان في بندر المدينة «زحمة» وحياتنا هادئة مستقرة ولا توجد عربات تاكسي إلا ثلاث عربات يسمونها الفورتي «يعنون فورد أبو أربعة» وأول عربية شاهدناها يقودها الراحل عثمان خوجلي وعربية بت المِزيِّن يقودها ولدها عباس أحمد، والعربة الثالثة يقودها أحمد ناصر.. ولا يوجد عند مدير المديرية الإنجليزي غير عربة اسمها الكومر وتحضرني الذاكرة أن الفطور الذي كنا نتناوله فقط باثنين مليم = لو كنتم تعرفون المليم هذه أصغر عملة وكان والدي يضع ستة قروش عند صاحب الدكان هارون عثمان أغا، آخذ كل يوم اثنين مليم للفطور وهو عبارة عن بتَّاب مصنوع من عيش الريف نأكله بالروب عند حبوبة صافيات عليها الرحمة، وأبناء الموسرين يفطرون بلحمة السلات في مطعم أبو طالب العربي بمبلغ قرش واحد «عشرة مليمات» وكنا نحن الذين نأكل هذا البتاب نكون الأوائل وجماعة السلات أبناء الأغنياء يأتون الطيش وتاني الطيش، وهكذا كان الوضع وكان في ذلك الزمان لا يوجد تلفزيون ولا راديو إلا راديو واحد في نادي الموظفين بالبطارية له أريل فوق رأس البيت، والشنط التي نحمل فيها الكراسات هي من قماش الدمورية وزن عشرة وليست مليانة كراسات، أنظر إلى طالب وهو في بداية الدراسة سنة أولى يحمل شنطة من الجلد الفاخر مليانة كراسات يحملها على ظهره ويتعثر في خطاه من هذا الحمل الثقيل يحملها ولا يعي ما فيها والتدريس زحمة في المواد الكتيرة زحمة بلا رحمة كما يقولون ونحن في تلك الأيام ندرس مواد محددة هي العربي والحساب والدين والجغرافيا، وأذكر وأنا في السنة الثالثة أن أرسل لنا مفتش المركز المستر (HUK) هوك كتاباً اسمه السيف والنار في السودان وطلب إعادته ووالدي كبير في السن وقد حضر معركة النخيلة في المهدية 1898م وهو أمي ولكنه يمتاز بالذكاء، وطلب مني أن ننقل هذا الكتاب بالقلم وقلت له يا والدي لا يمكن نقل هذا الكتاب، وقال سوف أعطيك يومياً خمسة قروش وفي النهاية فكرت أن ألخص الكتاب ولما طلب نقله ظللت أتلو عليه التلخيص، مثلاً أن معركة النخيلة بنهر عطبرة عن طريق الجيش الفاتح بقيادة المستر (HNTR) كانت يوم الجمعة 11/4/1898م وكان قائد جيش المهدية محمود ود أحمد مع القائد عثمان دقنة، وذكرت لهم الذين استشهدوا من جيش الأنصار وكان طبعاً هو حاضر هذه المعركة، واعتبر أنني نقلت الكتاب بأكمله كما طلب وأسوق لكم هذا الكلام لأبرهن على قوة التعليم أيام زمان واليوم والطالب يدخل مدرسة الأساس «التي كان اسمها الأولية زمان أربع سنوات»، وطالب اليوم يمكث في المدرسة ثمان سنوات ثم ينقل للثانوي العالي، وأطلب منه أن يلخص كتاب أوأن يحدثك عن تاريخ السودان حتى وإن تخرج من الجامعة. هذه ذكرياتي عن المدرسة الأولية أيام زمان وقبل أن أختم أين زملائي في تلك الأيام وتفرقوا في السودان يصنعون الحياة، بعضهم في القضاء وفي الجيش وفي التجارة وبعضهم رحل للدار الآخرة وللذكرى التي هي ناقوس يدق في عالم النسيان.