{ جاءت في كلمة السيد الصادق المهدي أمام معهد السلام الأمريكي الذي خاطب حضوراً فيه ملاحظات غير صحيحة، ربما تنطلي على أولئك الحضور أو أغلبهم لكن لمن تابع تطوّرات عملية السلام في السودان منذ يونيو 2002م حيث كان التوقيع على اتفاق مشاكوس بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية بقيادة جون قرنق بإمكانه استيعاب تلك الملاحظات غير الصحيحة في كلمة السيد الصادق. وأولى هذه الملاحظات في قوله إن «بروتوكول مشاكوس الذي قسم البلاد على أساس ديني فمهَّد الأرض ليتخذ الشطران تطوّراً منفصلاً، نسخة محدَّثة من سياسة الفصل العنصري الاستعمارية سياسة الجنوب 1922م». انتهى. المعلوم أن من شروط التفاوض التي قدَّمتها الحركة الشعبية بمساندة أجنبية طبعاً؛ لأنها كانت تعيش الهزائم النكراء قبيل إيقاف النار من شروطها أن يستثنى الجنوب من قوانين البلاد السارية، ولم يكن بإمكانها أن تطالب بإلغاء القوانين السارية من كل البلاد رغم تسميتها الحركة «الشعبية لتحرير السودان» وذلك لأن مجتمع «الشمال» في أغلبه ليس على استعداد لقبول قوانين بريطانية وهندية بديلة للقوانين المستمدة من دين الأغلبية المطلقة، وفي نفس الوقت فإن السند الأجنبي أعان الحركة الشعبية على فرض شرطها باستثناء إقليم من أقاليم البلاد من قوانين الدولة السارية.. وماذا كان سيفعل الصادق المهدي لو كان محل الحكومة السارية. وماذا كان سيفعل الصادق المهدي لو كان محل الحكومة والبلاد تحكمها القوانين الإسلامية واللوائح الإسلامية؟! أم أنه كان سيرفض تطبيقها لظن منه أنها تشكل خطأً إستراتيجياً؟! ثم إن ما حفز شعب الجنوب وقيادته المتمثلة في الحركة الشعبية وهي قيادة إجبارية طبعاً، إن ما حفزه على التمسك بالاستقلال عن الشمال ومن ثم عن المحيط العربي والإسلامي هو ميراث سياسي واجتماعي ظلت تتوارثه الأجيال الجنوبية منذ عام 1922م الذي أشار إليه السيد الصادق، لكن بروتوكول مشاكوس لا يمكن بأي حال أن يكون نسخة محدّثة كما قال من سياسة الفصل العنصري الاستعماري في عهد الاحتلال البريطاني، فسلطات الاحتلال البريطاني كانت تحكم الشمال والجنوب معاً بقوانين بريطانية، وهذا الحال ينطبق على كل مستعمراتها في العالم الثالث، فلماذا إذن لم تّسهم «وحدة القوانين» في عملية الوحدة الاجتماعية بين الشمال والجنوب؟! بل بين الدول العربية والإسلامية التي كانت مستعمرات بريطانية؟! الإجابة ببساطة؛ لأن القوانين والأعراف والدساتير لا تصنع انفصالاً ولا وحدة.. وهي قابلة للتغيير عبر الأزمنة من حيث التطبيق.. وفي كل مرحلة ربما تحكم قوة مختلفة من سابقتها، وربما عهد حاكم واحد يمر بأكثر من مرحلة كما كان عهد نميري من 1969م إلى 1985م.. ولا يمكن أن تكون وحدة القوانين بديلة لوحدة الدين وحسن الميراث السياسي والاجتماعي كعنصر لوحدة وطنية.. والغريب أن الصادق المهدي لم يُشِر في كلمته أمام معهد السلام الأمريكي إلى أن الحكومة قبلت استثناء الجنوب من القوانين الإسلامية رغم أن نسبة المسيحيين فيه قد لا تصل إلى عشرين بالمائة، قبلت الاستثناء من أجل استمرار الوحدة الوطنية.. ولو رفضت هذا الشرط ربما قال الصادق المهدي إن رفضها قاد إلى الانفصال. لكن هل يريد الصادق المهدي ألا تستمر القوانين الإسلامية حتى في الشمال من أجل بناء وحدة وطنية على أساس انفصال ديني وثقافي واجتماعي ولغوي؟! أقول هنا «لغوي» أيضاً؛ لأن السيد الصادق لعله يعلم محاربة الحركة الشعبية للغة العربية بعد اتفاقية نيفاشا.. والملاحظات كثيرة لولا ضيق المساحة. عقار و19 يوليو في تقرير تحت عنوان «المحاكم الإيجازية لأحداث النيل الأزرق» جاء جانب من نداء أطلقته ما تسمى «لجنة متابعة قضايا المعتقلين من الحركة الشعبية في سجون المؤتمر الوطني» يقول: «إن المحكومين تم القبض عليهم من منازلهم وأماكن عملهم بعد الهجوم الهمجي الذي شنه المؤتمر الوطني على ولاية النيل الأزرق وواليها المنتخب».. انتهى.. والمقصود بواليها المنتخب مالك عقار، أي أن الانتخابات كانت نزيهة في النيل الأزرق.. والتقرير نشرته صحيفة (الميدان) ومعلوم أنه حتى الصحف الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية لم يرد فيها سطر يتحدَّث عن هجوم الحزب الحاكم المؤتمر الوطني على ولاية النيل الأزرق وواليها، لسببين: الأول: هو أن مثل هذه الخطوة ليست في صالح الحزب الحاكم المؤتمر الوطني، الثاني: هو أن أمريكا وإسرائيل كانتا تريدان هذه الخطوة من الحركة الشعبية وبعد أن نفذتها بالفعل لم تجد منهما اعتراضاً في سبيل المواطنين المدنيين الآمنين، ولو كانت هي خطوة المؤتمر الوطني لوجد هو الاعتراض.. ولا يمكن أن يصدر توجيه الاتهام من صحيفة (الميدان) فقط.. لا نريد هنا أن ندافع عن المؤتمر الوطني، لكن افتراءات البعض وكذبهم ومحاولات تضليلهم للجماهير تجعلنا نتناولها بطريقة قد تمضي أحياناً في اتجاه المرافعة دون قصد.. فالمؤتمر الوطني نفسه يستحق منا المعارضة لمسايرته وتدليله قبل أن يقع الفأس في الرأس للحلو وعقار.. أليس هو الذي سمح لانتخابات النيل الأزرق بأن تكون نسخة شمالية لانتخابات الولايات الجنوبية التي أفرزت الفوضى فيها ثلاثة تمردات شرسة في وقتٍ حرج؟! أليس هو الذي قدم الدعوة للحلو بأن يستمر نائباً للوالي إذا لم يفز من خلال مولانا أحمد هارون؟! ألا يستحق بهذا المعارضة من البعض إذا لم يستحق التأييد من البعض الآخر؟. وليس هناك معطيات تجعل نتيجة الانتخابات لصالح مرشح الحركة الشعبية عقار وليست لصالح مرشح المؤتمر الوطني «عقار» وهو الدكتور فرح عقار. والمؤتمر الوطني إذا كان يريد بالهجوم على النيل الأزرق وواليها المنتخب عقار أن يبعد نائب رئيس الحركة الشعبية التي يقودها سلفا كير عن حكم الولاية، كانت التكلفة أقل بفرض رقابة حقيقية على انتخابات الولاية بسند إقليمي ودولي دون الدخول في احتكاك يؤدي إلى فشل العملية الانتخابية هناك.. وبهذا كان سيبين سقوطه في المنافسة، وهذا أفضل للحزب الحاكم من أن يهجم على والٍ مُشاع أنه منتخب، هكذا تكون الحسابات السياسية وليس على طريقة انقلاب هاشم العطا وأبو شيبة وعبد المنعم يا صحيفة الميدان.. هؤلاء هم الذين هجموا على نميري في 19 يوليو 1971م، وفشل صنيعهم بعد ثلاثة أيام.. إن الغدر والخيانة وثقافة الطابور الخامس كل هذا متأصل في أدبيات الحزب الشيوعي الذي تبقى صحيفة «الميدان» هي لسان حاله منذ عام 1954م.. وما فعله هاشم العطا والمقدم عثمان أبو شيبة قائد حرس نميري والعقيد عبد المنعم محمد أحمد قائد اللواء الأول مدرعات سراً، أراد أن يفعله مالك عقار علناً وهو يطلق كلمات التهديد باقتحام العاصمة الخرطوم. الشيوعي أبو شيبة خان نميري ونسي «الكسرة والملاح» ومالك عقار رد جميل المؤتمر الوطني بكلمات التهديد.. و«الجميل» هو تجاوز فوضى الانتخابات في ولايته.