مكالمة هاتفية تلقاها علي كرتي وزير الخارجية الخميس الماضي من نظيره الأمريكي جون كيري فحواها نقل الأخير رغبة بلاده إجراء مباحثات مباشرة مع الخرطوم بشأن القضايا العالقة. لم يفصح كرتي كثيراً عن تفاصيلها إلا أنه أشار في تصريحات إعلامية أمس الأول إلى أنه تم الاتفاق على خطوات محددة فيما يخص العلاقة مع واشنطن. وربما تعيد الأيام نفسها هنا، فقد سبق أن تحدثت هيلاري كلنتون وزير الخارجية الأمريكية السابقة، وهي تلتقي «كرتي»، على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، بنيويورك، للمرة الأولى، عقب توقيع السودان لاتفاقيات القضايا العالقة بين دولتي السودان وجنوب السودان.. بلغة متفائلة غابت طويلاً عن طاولة اللقاءات المغلقة والمفتوحة بين البلدين؛ الأمر الذي وضعه مراقبون في خانة الإيجاب فيما يخص العلاقة بين البلدين، وطالبوا حينها الخرطوم استثمار هذا المناخ الإيجابي في تسوية بعض القضايا مع واشنطن، من بينها بالطبع ملف الإرهاب والعقوبات الاقتصادية، تلك الملفات التي طالما استخدمتها الإدارة الامريكية في إطار سياسة العقوبات والمحفزات أو كما اصطلح على تسميتها بسياسة (العصا والجزرة). وبعيداً عن لغة المحفزات والعلاقات المشتركة، يقول واقع هذا الملف أن واشنطن تتعامل مع الخرطوم وفق إستراتيجية محددة مسبقاً لا تتزحزح عنها مهما بلغت تنازلات الخرطوم، وظلت تلك الإستراتيجية حيال الملف السوداني يشوبها غموض واضح سبق أن أكده حديث مبعوث الرئيس الأمريكي الأسبق للسودان «سكوت غريشن»، عندما أعلن أمام تجمع ضم بعض المنظمات من بينها (انقذوا دارفور) (إن جزءاً من الإستراتيجية الامريكية تجاه الملف السوداني ما زال سراً.. ولا يمكن إطلاع الجمهور عليه!!). وحال أجرينا نظرة عميقة للملف لوجدنا انه ومنذ أن اعتلى «بوش» كرسي المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض بدأت إدارته انتهاج سياسة (خطوة خطوة) تجاه السودان، واعتمدت لغة الحوار ثم التلويح بالعقوبات أساسين لها، وكان الهدف الأساسي وراء تلك السياسة حسب مراقبين هو تطويع نظام الخرطوم بعدما نعت بدعم الإرهاب، وبدأت ملامح تلك السياسة تظهر منذ يوليو من العام 2000م عندما بدأ مركز الدراسات الإستراتيجية في واشنطن دراسة ملف الحرب الأهلية في السودان، وفي فبراير من العام 2001م أصدر تقريره الشهير الذي أوصى تبني سياسة جديدة تجاه السودان تقوم على التواصل الإيجابي، بهدف تحقيق السلام ضمن معادلة جديدة.. الإدارة الامريكية نفذت توصيات التقرير بدقة متناهية، وكان من بينها تعيين مبعوث خاص للسودان في العام 2001، ووقع الاختيار حينها على السيناتور «جون دانفوث» مبعوثاً خاصاً للسودان. وتشير هنا دلائل الواقع إلى ان تلك الإستراتيجية حكمتها سياسات متشددة مثلما بنتها نظرة عدائية، فقد سبق ان صرحت مادلين اولبرايت وزيرة الخارجية الامريكية الاسبق في اول زيارة لها للسودان منصف تسعينيات القرن الماضي في كتابها (الجبروت والجبار) بقولها «رغم اننا نعتبر الخرطوم حكومة معادية فقد استقبلنا البشير بشكل حسن»، ظلت تلك الروح بشكل عام تعكس حراك اللوبيات المعادية للسودان والمؤثرة بصورة كبيرة داخل الإدارة الامريكية والكونغرس وبعض المنظمات والمجموعات الضاغطة، سواء أكانت تلك التي تخدم مصالح اللوبي اليهودي أو التي تنتمي إلى الشركات العاملة في مجال النفط وغيره. واتسمت في كثير من فصولها بعدم الوضوح رغم تقارير عديدة صادرة من الادارة الامريكية نفسها أشارت إلى أن تلك الإستراتيجية لم توضع بيسر.. فقد سبق ان أكدت صحيفة (الواشنطون بوست) أن السياسة الامريكية الحالية تجاه السودان تم التوصل إليها بعد نقاش مطول.. ووصفتها بأنها تحقق مواقف «أوباما» التي أعلن عنها منذ حملته الانتخابية عندما حث على فرض عقوبات أشد على السودان، كان من بينها حظر الطيران السوداني فوق قرى دارفور. ووصفت سوزان رايس أحد صقور الإدارة الأمريكية ومندوبة أمريكا السابقة في مجلس الأمن تلك الإستراتيجية بالذكية والصارمة.. وعرفت «رايس» بتطرف مواقفها ضد السودان منذ أن كانت مساعدة لوزير الخارجية الامريكية»مادلين أولبرايت». ويختلف الحديث عندما تتحدث واشنطن بلغة الحوافز فمنذ ان أعلنت هيلاري كلنتون»وزيرة الخارجية الامريكية السابقة أن بلادها ستعرض على السودان حوافز استناداً إلى التغيرات التي يمكن التحقق منها على أرض الواقع، فهم حينها أن تلك الإشارات قصد منها تحفيز الخرطوم عقب تطبيق اتفاقية السلام واستحقاقاتها التي كان من بينها الانتخابات والاستفتاء على مصير جنوب السودان، إلا أن حوافز واشنطون تجاه السودان تحولت بين ليلة وضحاها إلى عقوبات رغم تأكيدات مراقبين أن سياسة العصا والجزرة التي تمارسها واشنطون تجاه الملف السوداني قد واجهت خلافاً من دول غربية. وإجمال بعض النقاط هنا حول أهداف واشنطون من سياساتها تلك قد يقلل من عتمة موقفها تجاه السودان، وربما لم يخف البيت الأبيض رغبته في السعي إلى تغيير النظام في الخرطوم أو السعي إلى تعديل سلوكه حسبما أسماه عبر ما يعرف بالقوة الناعمة بصورة تتماشى ومصالحه حال بقائه على سدة الحكم، بحيث يصبح حليفاً لواشنطن في المنطقة. وحال عدم حدوث ذلك تظل العقوبات قائمة تجدد كل حين.