في شأن الحكم، أن أحد سلاطين وداي واجه معضلة استعصى عليه الخروج منها، واستدعى كل قيادات السلطنة وطلب منهم إيجاد حل للمشكلة التي استعصت عليه. وتحدث كل الوزراء والقادة مقدمين مقترحات الحل إلا واحداً ظل صامتاً لا يبدي اهتماماً بالأمر الشيء الذي أغضب السلطان ووجه إليه تهمة أنه لا يريد مساعدته، وطلب منه أن يدلي برؤيته للحل.. اعتدل الرجل وقال للسلطان «سيدي الله ينصرك لو كان لي فهم أكثر منك لحل مشكلات الحكم، فلماذا تكون أنت السلطان وأنا التابع». أتى الرجل الحكيم في ذلك الزمان بمعيار لأهلية الحاكم القائد من غير التوريث وشوكة القبيلة، وها نحن في عصرنا المتقدم في المعرفة والحضارة وتطور أنظمة الحكم والإدارة والعقد الاجتماعي والديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد، تسقط كل عناصر أهلية تسنم الوظيفة العامة الأولى في بعض ولايات السودان في قبضة القبلية والتي هي في أدنى سلم التمدين، وتشل إرادة شعب السودان وتجفف أطرافه فى تطبيق أنسب أنظمة الحكم والإدارة لبلد متعدد الثقافات والتنوع. وقد توصل علماء الحكم والإدارة ونتائج التجارب المعاصرةإلى أن الحكم الاتحادى الذي اتخذه السودان هو الأقرب لوجدان اهل السودان ولمعالجة التهميش المناطقي للسودان المتمدد الأطراف، وذاك بتنزيل السلطات الخدمية التنموية لأكثر المستويات استفادة واحتياجاً، وظلت الفدرالية فى العهد الوطني المطلب الأساس لنظام الحكم فى السودان ابتدء من حرب الجنوب ومروراً بالحركات الاحتجاجية والمطلبية السلمية وحتى الحرب القائمة الآن فى دارفور وبعض الولايات. إن قيمة الفدرالية تكمن في إرادة الشعب وهى من الحقوق الأساسية فى منظومة حقوق الإنسان والحكم الرشيد، وهذه الإرادة تحققها الاختيار الحر والشفاف لولاة الولايات ومشاركة المواطنين فى اختيار من يتولى أمرهم، واستئثار المركز بتعيين الولاة كما هو مطروح الآن يهد بناء الفدرالية ويعيد سطوة المركز القابضة، ولنا فى تجربة الحكم الإقليمى في العهد المايوي محاولة الاقتراب من إرادة أهل الإقليم وذلك بترشيح ثلاثة أشخاص لمنصب حاكم الإقليم، ومن ثم يقوم رئيس الجمهورية باختيار أحدهم لتولي المنصب وهي تجربة شائهة مكنت من قبضة المركز وأفشلت تجربة الحكم والأهداف المرجوة منه، ونسوق مثالا بارزا هو ما حدث بين الرئيس الراحل نميري والسيد دريج حاكم إقليم دارفور الذي اضطر للخروج من السودان والاقتراب من الحركة الجنوبية مستشاراً لرئيسها الراحل قرنق. الدعوة لتعديل الدستور وإعطاء الرئيس حق تعيين الولاة بدلاً عن انتخابهم، جاءت بمبررات تفشي القبلية والجهوية الناتجة من انتخاب الولاة، ونحن جميعاً ندرك مأساة القبيلة التي استشرت في الوظيفة العامة العليا وما سببت القبيلة انتخاب ولاة عشائريين غير مؤهلين بكل المقاييس وما أنتجت من تهتك في النسيج الاجتماعي وما أشعلت من حروب قبلية مدمرة وعنصرية قبلية مارسها الولاة بين مكونات الولاية الواحدة بتعيين الأقرباء فاقدي الأهلية فى الوظيفة العامة وقيادة الأجهزة السياسية على خلفية انتمائهم لقبيلة السيد الوالي والنتائج الحتمية المترتبة على فوضى الحكم في الولايات المنكوبة تدني مريع لفاعلية الأجهزة التنفيذية وتردي في مؤسسات ومرافق الخدمات الأساسية وانكفاءة في سياسة المجتمع. فالوالي العشائري يمن بتحقيق مكاسب للقبيلة والمجموعة القبلية المستفيدة تبذل الحماية والانتصار لولي النعمة ظالماً أو مظلوماً. إن مواجهة القبلية المستشرية في الولايات البعيدة بدارفور وكردفان وبعض من ولايات الشرق لا تكون بتغيير الدستور من أجل إعطاء الرئيس حق تعيين الولاة بدلاً عن انتخابهم. فالولاة العشائريون هم نتاج سلوك عميق في التدافع السياسي أخذ به المركز منهجاً لنصرة النظام، ودونكم بدعة البيعات القبلية والتأييد القبلي وابتداع مجالس شورى القبائل التي سيست القبيلة وألبستها ثوب الحزبية، وأيضا المحاصصات في الجهاز التنفيذي الاتحادي لمعادلة إثنية الحركات المسلحة الموقعة على السلام وإثنية الرحل والأمثلة تتوالى. إن البداية يجب أن تكون فى إزالة الأسباب الجذرية للمشكلة والتي تتعارض مع الدستور ونظام الدولة الحديثة، والتى لا تحتاج إلى تعديلات دستورية أو قانونية فهي أصلا لا تستند إلى قانون أو لائحة، ولتكن البداية قراراً بحل كل مجالس شورى القبائل، ومن ثم تطوير نظام الإدارة الأهلية وحل وإلغاء أمانات القبائل في هياكل الأحزاب السياسية وإلغاء مبدأ المحاصصة في المركز والولايات ومظاهر القبيلة في الحياة العامة والممارسة السياسية ووضع شروط للمتقدمين للترشح لمنصب الوالي في المؤهل العلمي الاكاديمي والخبرة المتدرجة والمبادأة وأمانة تحمل المسؤولية بوعي دون محاباة أو تمييز. ولا تحرموا الشعب حق اختيار من يتولى أمرهم.