أشرنا في مقالنا الأول إلى أصناف من الساسة منهم الشيوعيون والعلمانيون الذين يبخسون الإسلام حقه.. وقلنا هؤلاء لا يفهمون فقه الإسلام في الحكم.. وبالتالي هم جهلة والجاهل لا يؤخذ برأيه.. أو أن بعضاً منهم يعرف عن هدى الإسلام وعدله في السياسة والحكم ولكنهم يمارسون أساليب التشفي من الإسلاميين من خلال المدخل إلى ما عُرف بمصطلح الإسلام السياسي. وعتبنا أيضاً على بعض العلماء والأشياخ والدعاة الذين يرون أنهم بإمكانهم ممارسة الدعوة إلى الله بعيداً عن السياسة وهم بذلك كأنما يظهرون للرأي العام أن الدعوة لا علاقة لها بالسياسة.. وثمة صنف آخر من الساسة أشرنا إليه أيضاً هم أولئك الذين من فقه الإسلام في السياسة والحكم فروعه دون أصوله، وإشارته دون لبه ولذا حدثت لهم القطيعة عن معينه الغني الذي لا ينضب. إن كل هؤلاء ممن ذكرنا قد غلا وأفرط وتجاوز الحق نحو دروب الحكم والسياسة في الإسلام.. ولذا نقول لأولئك إخوتنا الأبرار العاملين في حقل الدعوة والوعظ والإرشاد وإصلاح حال الأمة في مجال العقيدة والأخلاق والتزكية من الأئمة والدعاة وخاصة طلاب العلم الشرعي أن في الدعوة إلى سياسة تقوم على فقه ومعرفة أحوال بيئة الدعوة زماناً ومكاناً وحالة المدعو عمرًا وعقلاً وثقافةً ونوعاً فضلاً عن أساليب الدعوة وخصائص الخطاب الدعوي ومختارات المدخل إليه ووسائل التسديد والمقاربة مقرونة بالصبر وتحمل الأذى والمشاق والتأني في تحصيل النتائج بعد المقدمات.. والدليل على أن الدعوة تقترن بالسياسة مئات الكتب التي حوتها المكتبة الإسلامية والعربية التي ألفها أصحابها فيما عرف بالسياسة الشرعية كمؤلف الإمام ابن القيم الجوزي.. وكمؤلف شيخه وشيخ الإسلام أحمد بن عبدالسلام ابن تيمة.. وككتاب الإمام أبي الحسن البصري الماوردي المسمى بالأحكام السلطانية وهو كتاب مشهور في بابه وكتاب الأحكام السلطانية لأبي يعلي الفراء وكتاب الإمامة والسياسة لأبي عبدالله بن مسلم ابن قتيبة وغيرها كثير مبسوط في مظانه. أما أولئك الذين ينادون بما يسمى الدولة المدنية ويحذرون من الدولة الدينية فهؤلاء سقطوا فريسة لعملية غزو فكري في مفهوم مصطلح الدولة الدينية الذي ظهر أول ما ظهر في أوروبا المسيحية التي عانت كثيراً في القرون الوسطى بما عُرف في تاريخها الصراع بين الكنسية والدولة، وكان رجال الدين في الكنيسة قد حرموا الاختراعات العلمية وقيدوا حركة العلم وألزموا الناس بصكوك الغفران وحرقوا كثيراً من كتب العلماء بل جوزوا قتل بعض العلماء بسبب مؤلفاتهم.. ولما انتهى الصراع بالانتصار على الكنيسة ورجالها.. ظهر مصطلح ما لله لله وما لقيصر لقيصر.. أي أن يكون الدين في الكنيسة لله وأن يكون الحكم في الدولة لقيصر «الحاكم» ومن هنا نشأ مفهوم فصل الدين عن الدولة.. وهو مصطلح أنتجته بيئة أوروبا المسيحية، ولما كان الدين المسيحي قد طاله التحريف والتبديل من قبل الرهبان والأحبار وغيروا ما جاء به عيسى عليه السلام نشأ الصراع الذي ذكرناه.. وهو صراع أدى في خاتمة مطافه إلى كراهية الدولة الدينية في الغرب.. وهو أمر لا ينطبق على الإسلام لأسباب منها أن الدين الإسلامي والقرآن لم يحرف ولن يحدث ذلك أبداً وهذا وعد من الله في الآية «9» من سورة الحجر «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» قرآناً وسنة.. ثانياً الإسلام رسالة عالمية خالدة وخاتمة جاءت مزودة بكل حاجات البشرية إلى وقت قيام الساعة.. ثالثاً لن يجرؤ أحد من المسلمين كائناً من كان أن يعمد إلى تحريف القرآن أو السنة لأسباب منها. أ/ الإعجاز الغالب في نظم القرآن لغة وأسلوباً وبياناً. ب/ تولى الله حفظ القرآن والسنة ولم يترك حفظه في صدور العلماء فحسب. إذن بهذا تنتفي جدلية الخشية من الدولة الدينية في الإسلام للفرق الكبير بينها وبين الدولة الدينية في المسيحية.. ولكن لما كان معظم العلمانيين والشيوعيين وبعض الإسلاميين الانتهازيين قد تلقوا الدرس والمعارف في محاضن التربية في الغرب ونهلوا من معارف الغرب المسيحي الكافر ثقافة وفكراً وحيث نشأة هذه المصطلحات فهم الذين يمثلون تحدياً أمامنا في بلداننا الإسلامية الأمر الذي يعني إعلان الحرب عليهم وإبطال حججهم الواهية.. ونزع سمومهم من أن تصل إلى جوف الشباب والأجيال القادمة التي ينبغي أن تُعد لخوض المعركة الفاصلة في تاريخ الصراع بين الحق وأهله من جهة والباطل وإمعاته وببغاواته من جهة أخرى ومن هنا تبرز أهمية الاهتمام بتربية الساسة وقادة المستقبل على هدى الإسلام وتربيته الإسلامية. الأمر الذي يجعل السياسة علمًا وفنًا يدرس له نظرياته ومناهجه وتطبيقاته كما لكل علم وفن، وأن يستوعب الدرس السياسي داخل النصوص الدينية التي هو منها حيث تخضع السياسة لدائرتي العقيدة والأخلاق منهجاً وتطبيقاً.. ذلك لأن معاناة الأمة اليوم سببها صعود ساستها سلم المسؤولية وهم في فقر شديد من زاد التربية الإسلامية التي تحصن النفس فكرياً وثقافياً وسلوكياً.. وحين تعيش الجماهير مرارة التسلط والاستبداد والقهر والظلم ومصادرة الحرية وفساد الحكم مع البقاء فيه طويلاً من جهة.. وإهدار الموارد ونهبها وصرفها في غير موضعها من جهة.. وغياب الشورى والأعتناء بالكفاءة ومحاولة توريث الحكم من جهة أخرى فكل هذه العوامل مردها ضعف التربية الإسلامية عند الساسة وهذا يتمخض عنه ازدراء الدين والاستهزاء به وعدم الحرص على الصدور عنه. لكن ثمة شيئًا غريبًا جداً يبدو عند استقراء حالة هؤلاء المنهزمين نفسياً من إسلاميين شكلاً أو علمانيين وشيوعيين جوفاً لماذا هؤلاء جميعاً لا ينتقدون إصرار بناء أنظمة سياسية في الغرب على أسس عقائدية كما هو الحال في إسرائيل التي تصر أن تصدر مواقفها على أسس عقائدية.. وفرنسا شرعت قانوناً منعت به الحجاب لأنه يتعارض مع قوانين الدولة العلمانية، وهنا ملاحظة مهمة وهي ألا فليدرك أن العلمانية هي أيضاً دين عند أهلها.. وسويسرا منعت مآذن المساجد بسبب توجهات دينية استجابة لرغبة جماعات دينية متطرفة هناك.. والكنيسة تحرم الطلاب وتمنع تعدد الزوجات عملاً بعقيدة دينية تعتنقها وتلزم أتباعها بها.. والهندوس يحرمون ذبح البقر ويعاقبون بالقانون من يذبح الإله وكل هذه القوانين والتشريعات تصدر عن الدولة وعن برلمانات تلك الدول، الأمر الذي يُظهر بجلاء تمسك الدولة بالعقيدة الدينية عندها.. فلماذا الخشية إذن من الدولة الدينية في البلاد العربية والإسلامية.. وعلينا ألا ننسى أن بوش الابن فاز في الانتخابات الأمريكية حين فاز لما طرح مشروع الدولة الدينية وموقفه الشهير من المثليين خير دليل.. بل هنا صورة أوضح من ذلك وهي حين ضربت الولاياتالمتحدةالأمريكية في أحداث 11 سبتمبر 2001 صرح بوش بكلمات منها «إنها حرب صليبية، وقال: «العدالة المطلقة» ولتلك نزعات دولة دينية.