كما أشرنا أمس، فإن المبرر المنطقي الذي أدى لموافقة الوفد الحكومي في الجولة الأخيرة والطويلة والحاسمة لمفاوضات نيفاشا بشأن السلام الشامل في السودان، على القبول بإدراج بروتوكولات منفصلة ومخصصة لمنطقة أبيي ومنطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق ضمن الاتفاقية النهائية التي أفضت إليها تلك الجولة الفاصلة لمفاوضات السلام، والتي تم إبرامها في مطلع العام 2005، ربما كان - كما نرى - هو أن تلك الموافقة كانت قد جاءت معبرة عن رغبة واضحة في العمل من أجل المحافظة على الوحدة الوطنية السودانية بين الجنوب والشمال حتى ولو في حد أدنى. وقد كان هذا، كما نرى، هو المنطلق الأساس والرئيس الذي سعى له الوفد الحكومي برئاسة الأستاذ علي عثمان محمد طه النائب الأول لرئيس الجمهورية حينها، كما سعت له أيضا كل الوفود الحكومية الأخرى التي شاركت في المراحل المنصرمة السابقة لمفاوضات السلام الماراثونية والشائكة والمعقدة والشديدة الوعورة والصعوبة التي ظلت جارية ودائرة مع الحركة الشعبية ذات الطابع الجنوبي المحوري والجوهري والتي كانت متمردة في مناهضة ومعارضة ومقاومة مسلحة ومدعومة بقوة من جهات أجنبية معادية في مواجهة شرسة وعاتية مع السلطة الحاكمة القائمة والراهنة منذ وصولها إلى سدة مقاليد الحكم بانقلاب ثوري مدني وعسكري أقدمت على القيام به مضطرة الحركة الإسلامية للنخبة السودانية الحديثة والمعاصرة في العام 1989م. وإلى جانب هذا الدافع الوطني والموضوعي والحضاري والإستراتيجي الذي نرى أنه هو الذي أدى للموافقة على القبول بالاستدراج لإدراج البروتوكولين المنفصلين والمخصصين لمنطقة أبيي ومنطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق في الاتفاقية النهائية لسلام نيفاشا، فإن هناك، كما نرى، عوامل أخرى ذات طابع تكتيكي وعملي كان لا مناص من مراعاتها والتجاوب معها والاستجابة لها والسعى إلى عبورها وتجاوزها بإعطاء اعتبار للضرورة الضاغطة وذات الطابع الظرفي والدافع المرحلي على النحو الذي أفضى وأدى إليها ودفع إلى أخذها في الاعتبار كما نرى، وهي تتعلق في جوهرها بأن المحور الجنوبي الرئيس والأساس للحركة الشعبية بقيادة زعيمها وملهمها ومرشدها ورئيسها حينها د. جون قرنق، الذي تولى بنفسه رئاسة وفدها لأول مرة في تلك الجولة الحاسمة والفاصلة والنهائية لمفاوضات نيفاشا، مع الوفد الحكومي بقيادة الأستاذ علي عثمان محمد طه، كان قد وجد نفسه في مأزق حقيقي، وأخذ وطفق يسعى بصورة ملحة ضاغطة وراغبة ورامية للحصول على مساعدة مسعفة له في سبيل الوصول إلى معالجة ناجعة ومفلحة ومرضية لأبناء منطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق ومنطقة أبيي الذين كانوا قد وافقوا على المشاركة والمساهمة الفاعلة ضمن الحركة الشعبية ذات الطابع الجنوبي المحوري والجوهري في الحرب الأهلية المناهضة للسلطة الوطنية المركزية الحاكمة في السودان منذ العام 1983م. ومرة أخرى، فإن من يطلع على القصة الموثقة لما جرى في الجولة الأخيرة من مفاوضات نيفاشا كما جاءت واردة في كتاب الوسيطة النرويجية الحسناء الوزيرة السابقة هيلدا جونسون، والذي صدر منذ سنوات في هذا الصدد وبهذا الخصوص، سيجد الكثير من الحقائق والوقائع ذات المغزى والدلالة الشديدة الوطأة والبالغة الحدة فيما يتعلق بالمعاناة التي تعرض لها د. جون قرنق عندما كان يبحث أثناء مفاوضات نيفاشا عن إجابة عن السؤال الصعب بشأن ما الذي كان بإمكانه أن يفعل ويعمل حتى يحصل على الرضى من أبناء منطقة أبيي ومنطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق، ويضمن بذلك عدم اعتراضهم على اتفاقية السلام الشامل المبرمة مع الحكومة، وعدم إقدامهم على القيام بأية عرقلة تكون معوقة لجوهرها الأساس والمحوري والرئيس الذي يتمثل في التسوية المتعلقة بالعلاقة بين شمال وجنوب السودان، وتنفيذ الترتيبات الخاصة بها، كما جاءت واردة في اتفاقية سلام نيفاشا، بما فيها إجراء استفتاء للمواطنين في الجنوب لإقرار الإبقاء على الوحدة الوطنية مستمرة ومتواصلة بناء على ذلك، أو اختيار الانفصال على النحو الذي جرى في خاتمة المطاف ونهاية الطواف، وبعد أن رحل قرنق عن الحياة الدنيا الفانية والزائلة. وهكذا، فقد كانت المعالجة الطارئة المتمثلة في الموافقة على القبول بإدراج بروتوكولات منفصلة ومخصصة لمنطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق ومنطقتي أبيي ضمن اتفاقية نيفاشا للسلام الشامل في السودان هادفة في حقيقة أمرها للمحافظة على الوحدة الوطنية بين الشمال والجنوب والعمل من أجل توفير المساعدة المسعفة للحركة الشعبية الجنوبية وملهمها ومرشدها ورئيسها الراحل د. جون قرنق للخروج من المأزق الذي كان قد وجد نفسه فيه.. أما لماذا لم يتحقق ذلك، فهذا هو ما سنتطرق له غداً إن شاء الله.