لا شك أن المناهج الدراسية أساس العملية التعليمية وأهم أركانها لأنها تزود النشء بالأفكار والمعلومات والمعارف المختلفة، وقد لعبت المناهج السابقة في مرحلة التعليم الابتدائي دوراً رائداً في مجال تربية وتعليم الناشئة وبناء قدراتهم يوم أن كانت ثابتة وواضحة ومنتظمة، ولكن من أسف فقد تم تبديلها وتغييرها لاحقاً وجاء مختصو المناهج بأخرى مرتجلة شعارها نعم للحشو والحفظ لا للابتكار والإبداع، وألبسوها ثوب النمطية والتقليدية ومن ثم وُضعت أمام السادة علماء المناهج بمنظمة اليونسكو للمصادقة والمباركة فبصموا عليها على عجل ووصفوها بأنها من أعظم وأرقى المناهج مناسبة للتعليم في السودان في هذا العصر، أو كما قالوا بحسب تصريحات أحد خبراء المناهج في مؤتمر عُقد قبل أكثر من خمس سنوات بمدارس المجلس الإفريقي بالخرطوم، ولكنهم أي علماء اليونسكو ربما ضحكوا «تحت.. تحت» حتى بانت نواجذهم لأنهم تأكدوا تماماً أن نصف مناهجنا للتعليم الأساسي قد أُفرغ محتواها من مضمونه الرسالي والمثالي. وأن الروح قد نُزعت منها وأصبحت وهناً على وهن، وأن أهدافها ومقاصدها النبيلة قد انحرفت عن جادة الطريق القويم، وأن المخطط التدميري لعقول الناشئة يسير بشكل جيد وسوف تكتمل حلقاته ولو بعد حين، وأن نسبة مقدرة من أمور الدين الحنيف والقيم الرفيعة والأخلاق الفاضلة قد تم اغتيالها حتى لا يتعلمها أبناء المسلمين بعد أن كانت حية سامقة تمشي بين الناس. كل ذلك لأن اليونسكو منظمة صهيونية غربية مدمرة لا يعجبها العجب ولا الصيام في رجب، ومن أمثلة ما تم حذفه وتجاوزه من منهج التربية الإسلامية لمرحلة الأساس قدر غير يسير من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسيرة الخلفاء الراشدين وسيرة الصحابيات الفضليات أمهات المؤمنين من أمثال خديجة الطاهرة وعائشة الحميراء وأسماء ذات النطاقين، وكذلك تم حذف كثير من آيات وأحاديث الجهاد في الإسلام وأحاديث التعبد الخالص لله حتى لا يعرف التلاميذ أي العمل أحب إلى الله، ولا سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ولا وصية النبي الخاتم لابن عباس في حديث: «يا بني إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك.. إلخ» بخلاف المعارف الغزيرة التي تم حذفها من كتب العلوم والمعلومات الوفيرة والمفيدة من كتب الجغرافيا والتاريخ، كل ذلك تمهيداً لتمرير أجندة العولمة الفاسدة واستثمار عقول الناشئة فيما لا ينفع وتنشئة الطفل على حرية غير منضبطة بأحكام ولا وازع ولا أخلاق حتى يمتلك حقوقه وقراره في المستقبل القريب وبالتالي يتعامل «على كيفه» مع والديه ومع من يكبرونه سناً، والتربوي الحصيف الذي يلحظ ويتمعّن واقع اليوم وما صاحبه من طفرة تقنية ومتغيرات هائلة واتساع دائرة المنتجات الفكرية الغربية الهدامة يقسم جهد إيمانه أن الأمر يحتاج فعلاً لوقفة تأنٍ وتأمل وتدبر حتى يصل إلى حقيقة وضرورة استحداث مناهج دراسية متميزة تفجر طاقات النشء الذهنية منذ نعومة أظافرهم وتواكب مستجدات ومتطلبات العصر التقني وحركة الحياة، ولما كان النمو والتطور سنة الله في خلقه فمن باب أولى أن تتطور تبعاً لذلك مناهج التعليم ووسائله ومدخراته بحيث تخضع عملية صياغة وصناعة وهيكلة المناهج إلى خطة علمية مدروسة تستهدف عمق المعلومات والمعارف العلمية والجغرافية منها والتاريخية والقيم الإيمانية والإنسانية التي ترتبط ببعضها البعض ليكون أصلها ثابتًا في مرحلة الأساس وفروعها في المراحل الأخرى ويقوم الخبراء في المركز القومي للمناهج بمحاصرة أوجه القصور والمسالب بالتنقيح والمراجعة الدورية بناءً على توصيات وتوجيهات المعلمين والتربويين حتى تكون أعظم فائدة وأكثر رسوخاً في عقول النشء علاوة على أن فلسفة المناهج التعليمية تمثل ملكية فكرية للدولة وتوجهها الحضاري والريادي وتكشف هُويتها وتاريخ ونشاط ومعتقدات أهلها آخذين في الحسبان أن المناهج التعليمية هي الوسيلة الأساسية لبلوغ تلك المقاصد والأهداف، ومن هذا المنطلق أقول للقائمين بأمر المناهج: «اتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير» وبودي أن أطرح سؤالاً أتمنى الوقوف عليه طويلاً ودراسة فحواه دراسة متأنية واستبيان آراء المعلمين الذين ينفذون المناهج الحالية وكل من يهمهم الأمر من التربويين والناقدين وقادة الفكر والرأي والبصيرة وحصر النتائج والتعامل معها بالحكمة والعقل مستصحبين آثار وتجارب الماضي والحاضر وأحسب أن الأمر غاية في الأهمية والخطورة ويهم الجميع ذلك لأن تلاميذ اليوم أصبحوا ومن حيث لا يشعرون كالمستجير من الرمضاء بالنار وسؤالي هو هل تحقق مناهج الحلقة الثانية «مسكننا ملبسنا سلامتنا» أهداف وطموحات وآمال التلاميذ والتلميذات وتضع لهم أساساً متيناً من المعارف والمعلومات التي تساعدهم على امتداد مراحلهم الدراسية المقبلة؟؟ وبوصفي ممن يقع على عاتقهم أداء هذه الأمانة داخل حجرات الدراسة أرى وبكل صدق وأمانة أنها لا تصلح لأن تكون منهجاً قومياً يدرس في مدارس الأساس لأنها خالية من الإبداع والابتكار والخيال ولا تشجع المعلم والمتعلم على التفكير والملاحظة وتجعل أسلوب التفكير غير قابل للمقارنة والموازنة وتباعد الشقة بين النشء وقطار المعرفة والتطور الذي يطوي المسافات وتجعلهم يجهلون كماً معتبراً من المعلومات والمعارف التي كانت تحتويها المناهج السابقة «الجغرافيا التاريخ العلوم» ويتجلى ذلك بوضوح شديد إذا قارنت بين ذخيرة من درس المناهج القديمة في الماضي وآخر يدرس الفنون التطبيقية بمسمياتها الحالية، فالأول مداركه واسعة وثقافته وفيرة فهو وثيق المعرفة بالخلفاء الراشدين وبلاد الرافدين وهضبة الشطوط وقادر على استعمال أطلس العالم وتتبع السهول الساحلية والسلاسل الجبلية ومعرفة منابع ومصبات الأنهار، والثاني مداركه ضيقة كمن يصعد في السماء بفضل التعتيم والحصار المقصود الذي فُرض عليه ومنعه من الانطلاق فهو خالي الذهن فقير المعلومات لا يعرف بلد المليون شهيد ولا السلطان علي دينار ولا الأمير عمر المختار.. ويكفي أن ضعف هذه المناهج الجديدة قد أدرك كنهه التلميذ وضاق صدره بها قبل أن يبلغ الحلم حين يعبر لك وبكل جرأة وشفافية وأنت تُلقي عليه هذه الدروس بأن ذاكرته وخلاياه العقلية لم تكن مستعدة لتخزينها رغم زخرفتها له ببعض المحسنات الأمر الذي أوجد عدم القناعة من المعلم والمتعلم، والتلميذ صادق في تعبيره وميوله لأنه في حاجة لى الجديد والمثير والجاذب خصوصاً في منهج العلوم السابق فدراسة الجرادة والبعوضة أحب إلى التلميذ من دراسة غسيل وكي الملابس لأن في دراسة الجرادة بحثًا وملاحظة يستمتع بها التلميذ ويسعد بنتائجها كالذي يبحث عن الحكمة ويجدها، وكثيراً ما نجد النقد الصريح من التلميذ اليوم بأنه لا يرغب في أن يكون حائكاً للملابس أو ممن يمارسون بناء منازل الطوب والطين، وفي المقال القادم سوف أورد لكم بمشيئة الله تعالى بعضاً من الشواهد ومواطن الخلل والضعف في مناهج الفنون التطبيقية من مواد دراسية دون المستوى المطلوب على سبيل المثال لا الحصر حتى يقف القارئ الكريم على حقيقة ما أقول..