على خلفية فذلكة تأريخية تعتبر حقبة جعفر نميري هي خطوة البداية الحقيقية لتجربة الحكم الفيدرالي في السودان الذي بدأ بديباجة عنوانها الحكم الإقليمي سنة 1980م، وهذه الجزئية لا تنفي وجود محاولات إدارية جريئة في ممارسة السلطة الحديثة سبقت تجربة مايو منذ أيام المهدية «نظام الإمارات» والتي أسس الاستعمار الإنجليزي على أنقاضها نظام المديريات التسع، لتشكل مدخلاً مرضياً عنه وقتها في حكم السودان، بالرغم من بعض العثرات التي لازمتها في التطبيق والممارسة، فكانت الفتوق التي اتسعت على الراتق مستقبلاً.. ولأن الحياة مستمرة والأجيال تتعاقب، فقد تعالت أصوات أبناء الهامش في الشرق والغرب مطالبة بتوسيع مظلة الحكم ليصبح فيدرالياً بمرونة تتيح للأقاليم قدراً عالياً من المناورة السياسية، وهكذا ولدت تجربة قيام الأقاليم في مايو التي حاولت في البداية فرض وصاية على دارفور بترقية اللواء «م» الطيب المرضي من درجة محافظ الى درجة حاكم للإقليم دون اعتبار لمبدأ مساواة دارفور ببقية الاقاليم، مما أشعل انتفاضة 1980م التي أرغمت المركز على تعيين أحمد إبراهيم دريج محل الطيب المرضي، ولكن يبدو أن حكومة نميري لم تستطع بلع عملية فرض دريج، فوضعت كثيراً من «الدقارات» والإبر المسممة على طرق سلطة دريج التي تسمرت دون حراك، الأمر الذي عجل بخروج دريج مغاضباً من السودان بعد عام من توليه للسلطة ولم يعد حتى الآن «أكثر من ثلاثة عقود»، وتلوح في الأفق مبادرات خجولة ربما تفضي الى عودته نهائياً الى الوطن «وتلك قصة أخرى»، وأرجو أن أسوق من خلال هذا السرد إلى أهمية الانتباه الى حقيقة راسخة وهي أن كل مراحل تطور الحكم الفيدرالي في السودان كانت بدواعٍ سياسية بحتة غاب فيها العنصر الاقتصادي والمالي من حيث حساب الكلفة المالية العالية لمتطلبات التوسع الأفقي والرأسي في السلطة وأدوات الحكم، خاصة أن السودان دولة نامية محدودة الموارد مشدودة الأطراف هشة البنية الاجتماعية لتفشي ثقافة العزة بإثم القبيلة والانكفاء الجهوي، وهي عوامل تتطلب قدراً عالياً من وحدة النسيج الاجتماعي ووحدة القرار الحاكم. وخلافاً لواقع السودان المصنف قديماً برجل إفريقيا المريض، إنحازت كابينة القرار السيادي الوطني «دون استثناء لأحد» منذ بواكير الاستقلال الى ثقافة الأجنبي المستعمر «فرق تسد»، مما كرس الى الجهويات في السياسة.. ومن بيضة ذلك الواقع الآسن تم تفريخ كتاكيت التمرد على سلطة المركز، فكانت منظمة سوني في دارفور «1960م» وتنظيم الجوهرة السوداء في جبال النوبة ناهيك عن تمرد توريت في الجنوب وململات محسوسة لأدروب في شرق السودان، وكل بلاوي الحاضر تستمد جذوتها من جمرة الماضي القريب... ورغم هذه السمات والخصائص السالبة في حاضنة السياسة السودانية يصر الناس على لعق جراحات الماضي بإعادة إنتاج الأزمة عبر مزيدٍ من التوسع الشره في مؤسسات الحكم وعلى كل المستويات «قومياً وزارات بعدد حبات الحصى» و «ولائياً ولايات بدون مقومات حكم وأصول» و «محلياً محليات تتناسل كالأرانب بعدد الفرقان والحلال»، والمصيبة أن كل ثقل هذا الجسد الهلامي ظل يتغذى خصماً على صحة وتعليم وأمن محمد أحمد السوداني الأغبش الذي تدنى مستوى حياته إلى ما دون الحضيض، لدرجة أصبح فيها التسول بدرجاته المختلفة هو السمة الغالبة للناس في وطن مصنف سلة غذاء العالم، ولكنه تدحرج إلى الدرك الأسفل بفعل ألاعيب الساسة والسياسة، ليتصدر نشرات الدنيا وتقارير المؤسسات الدولية بأنه أفشل دولة في العالم بحساب مؤشرات الحكم الراشد والشفافية والاستقرار والقدرة على إدارة التنوع... وكل هذه الصفات مجتمعة جعلت السودان سخرية يتندر بها وأقصوصة تحكى، علماً بأن هذا الشعب كان هو مصدر الإلهام لكثير من شعوب المنطقة العربية والإفريقية السمراء. مع كامل أسفي على الإطالة والتحليق، أعود الى أرض الواقع «ببرشوت» الحكمة التي تقتضي التراجع الفوري عن دستور يجعل تعيين الولاة في الولايات عبر صناديق الانتخاب، ولعمرى أنها تجربة فاشلة كرست لإنجاب الطغاة في مجتمعات الريف البعيد، وهذه بديهية تبدو شاخصة للعيان في كل ولايات السودان التي أصبح الولاة فيها يسوقون الناس كالقطيع عبر الاستثمار في مصالح العباد وحاجاتهم المتجددة الى العمل والسكن والحماية، والتجربة خير برهان، بدءاً من الخرطوم، وإن شئت أتجه إلى أية ولاية سوف تجد ما يشيب له الرأس جراء ممارسات السلطة في تخصيص الأراضي وفي المشتروات الحكومية والتعيينات الوظيفية، مضافاً اليها استخدام سيء لموارد الدولة وإهدارها بإفراط في ما لا ينفع العامة، والأخطر من هذا النزيف الاقتصادي للموارد، الردة الاجتماعية التي حملت الناس الى مربع القبيلة وأفخاذ الأنساب في محاصصة السلطة، فكانت الأطماع التي مزقت أنيابها حاضر السودان ومستقبله الذي مات في صدور الرجال، وصار الكل يفكر بمنطق نفسي وكفى. ولكل هذا يظل المجلس الوطني مطالباً بإعادة الفيل الى المنديل، ومنح الرئيس تفويضاً كاملاً في تعيينات الولاة، دون التقيد بجغرافية التوزيع والتكليف باعتبارها الحلقة الأولى في مسلسل ترميم السلطة في السودان، ومازال المشوار طويلاً وشاقاً، ولكن فلنبدأ عرض المسلسل بوقف مهزلة انتخابات الولاة والباقي هين!!