قال لي صاحبي بعد انتهاء الدرس محيِّياً: كيف حالك وأحوالك؟ قلت: الحمد لله في نعمة من الله وعافية وستر. قال: هنيئاً لك الشكر إلا أنني أرى شيئاً. لست كما عهدناك. قلت: وكيف أكون كما عهدتني والحال كما تراها؟! قال: وما عساك تصنع؟ وما عساك تفعل؟ قلت له: أليس بيننا وبين هؤلاء القوم عهد؟ أليس بيننا وبينهم ميثاق؟ هل هذا ما تعاهدنا عليه وتواثقنا؟ قال صاحبي مجتهداً في النصيحة: دع عنك القلق فإن الحال ليست هي الحال.. وإن الناس ليسوا هم الناس.. ولعلي لا أبالغ إذا قلت لك إن من بين الناس من يمشي في طرقات الحياة غير آبه ولا محتفٍ وملتفت إلى شريعة ولا إلى دين ولا إلى خلق ولا إلى قانون. قلت وكيف بالحساب يوم الحساب. قال لي: إنك قد لا تصدق أن بعض هؤلاء يتصرفون أساساً وكأنهم لا يموتون.. وإذا ماتوا فهم لا يُنشرون.. وإذا نُشروا فهم لا يُحاسبون وإذا حوسبوا فلا يعذبون.. أليس هذا تفسيرًا لهذه الحالة وإن كان تفسيراً صورياً؟ قلت: هذا يصلح تفسيراً صورياً لغير هؤلاء الناس الذين أعنيهم وتعنيهم بحديثي وحديثك. فهؤلاء يعلمون علم اليقين أنهم يموتون.. وأنهم يُحشرون.. وأنهم يُحاسبون.. وكنا نتذاكر منذ عهد الطلب مقولة «من نوقش الحساب عُذب» فهؤلاء لا ينطبق عليهم قولك بأنهم يظنون.. ويظنون.. قال لي صاحبي: «فهذه والله مصيبة» قلت: بل مصيبتان. تعال ننظر إلى هذا الأمر بحكمة وحنكة وكياسة وتروٍّ. وإن من الكياسة ومن التروي أن نبعد المؤتمر الوطني من المحاسبة فهو نبت طلع بعد 30 يونيو بسنوات. ولكن لننظر في أمر الحركة الإسلامية التي هي أم كل شيء وكل وضع وكل حالة. وقد اقترنت الحركة الإسلامية بالإنقاذ طيلة ثلاث وعشرين سنة. والتي هي أطول من عمر النبوة. والحركة الإسلامية والإنقاذ كلتاهما بين أمرين: الخطأ أو الصواب. لا فرق بين أن يكون ما وصلت إليه الإنقاذ جاء اجتهاداً أم جاء عن قصد. فهب أن الإنقاذ كانت مخطئة ثلاث وعشرين سنة وأنها في هذه السنوات أخطأت في كل شىء.. أخطأت في الانقلاب وأخطأت في إخفاء هوية الانقلابيين، وأخطأت في تأخير إعلان الشريعة حتى عام 91 وأخطأت، وأخطأت في تكريس السلطة في أيدي أفراد قلائل، وأخطأت في إهمال المناهج التربوية والتعليمية، وأخطأت في ضبط الشارع. وأخطأت في سياستها تجاه المرأة، تجاه خروجها وعملها ورعايتها ورعاية الأسرة وتشجيع الزواج وزيادة فرص الشباب في العمل على حساب الشابات، وهب أنها أخطأت في سياستها التعليمية وفي التوسع الذي جعل الفتيات لقمة سائغة للجوع والحاجة.. وهب أن الإنقاذ أخطأت في سياستها الإعلامية في الصحافة وفي الإذاعات وفي القنوات الفضائية حتى أنتج ذلك قناة النيل الأزرق وهي أكثر قناة سيئة ومستخفة بالشريعة والمشروع الحضاري.. وهب أن الإنقاذ أخطأت في الجبايات والمكوس والعشور والضرائب.. وهب أنها أخطأت حتى في الزكاة وإخراجها في مواعينها الثمانية المعروفة، وهب أن الإنقاذ أخطأت في نيفاشا وبرتوكول الخرطوم وكوكادام ومشاكوس وناكورو «وما أدري شو» وهب أنها أخطأت في إسناد الأمر إلى أكثر من ألف أو ألفين من الدستوريين في المركز والولايات. هب أن كل تلك كانت أخطاء.. بل خطايا.. أما كان في وسع الإنقاذ أن تصيب مرة واحدة.. فقط مرة واحدة. لقد كان في مكنة الإنقاذ أن تصيب مرة واحدة.. مرة واحدة في العمر النبوي.. فتكون إصابتها هذه في حضن الأخطاء والخطايا الكثيرة مثل الاستثناء الذي يُثبت القاعدة ولا ينفيها. قال لي صاحبي: وما هو نوع الأصابة التي كنت تتوقعها من الإنقاذ؟ قلت: ليس فقط من الإنقاذ.. بل من الإنقاذ ومن الحركة الإسلامية على السواء فهما شريكتان وليستا ضرتين.. ربما كان المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية ضرتين مع عدم اكتمال المقابلة. ومع ذلك أمهلني حتى أكمل لك الصورة.. واسمعني.. في مقابل كل ذلك هب أن الإنقاذ كانت «مصيبة» ولم تكن مخطئة.. وأنها كانت «مصيبة في كل ما فعلت وفي كل ما لم تفعل.. وأنها لم تخطئ لا في الانقلاب ولا في الانفلات ولا في الجبايات ولا في الإعلام ولا في السياسة الخارجية ولا في برامج الأسرة ولا في مناهج التعليم.. هب أنها لم تخطئ في الاقتصاد ولا في السياسة ولا في نيفاشا ولا في الخرطوم. هب أنها كانت «مصيبة» على مدى ثلاث وعشرين سنة في كل ما تأتي وما تذره..أما كان في إمكانها أن تخطئ مرة واحدة وتخرج من نمط الصواب هذا الذي أدخلت نفسها فيه؟! وأدخلت فيه السودان.. وأدخلت فيه الحركة الإسلامية الكونية وليس فقط العربية أو السودانية؟ قال لي صاحبي مستنكراً: ما هذا يا شيخ.. إذا أصابت الحركة والحكومة رجوتهما أن يخطئا.. وإذا أصابتا رجوتهما أن يصيبا؟ هل هذه سفسطة قلت له: نسيت أقول لك إذا كانت الإنقاذ مصيبة طيلة ثلاثة وعشرين عاماً فإن الحركة الإسلامية كانت أيضاً مصيبة طيلة هذه المدة فهما إذن مصيبتان.. وليست مصيبة واحدة.. وتعال نفترض أن ما فعلته الإنقاذ كان خطأً. ونفترض أنه خطأ جاء عن غير قصد وغير متعمَّد وهو اجتهاد.. فاسأل نفسك لماذا تجتهد الإنقاذ لتخطئ؟ لماذا لا تصيب ولو مرة واحدة طيلة ربع قرن من الزمان تقريباً؟ لماذا لا تصيب فتأتي من بين آلاف المستوزرين برجل واحد يثبت للدينا أن الإسلام يقبل التطبيق في السودان وفي روسيا وفي أمريكا وفي بلاد الواق الواق إن وجدت.. وأنه يقبل التطبيق في كل زمن من لدن عام الفيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وأن الفاروق ليس خرافة.. وإن الصديق ليس وهماً .. وإن عمر بن عبد العزيز ليس خيالاً.. وأنه ليس في سجل الولايات عندنا غول ولا عنقاء. هذا إذا كانت الإنقاذ مخطئة.. والحركة كذلك.. على طول الخط.. فإذا كانت الإنقاذ «مصيبة» والحركة كذلك.. فلماذا لا تخطئان ولو مرة واحدة ويأتي إلى سدة الحكم رجل واحد صالح.. زاهد.. آمر.. وناهٍ.. يعرف في الله وينكر في الله.. يكون أسوة وقدوة ويقدم للدنيا صورة فريدة للدستوري المسلم.. الذي يشغله تثبيت المنهج أكثر من تثبيت السيارة والمخصصات والبدلات.. وبابه مفتوح على مصراعيه.. ولا يحتجب عن خلة مسلم.. ولا يستأثر على مسلم بشيء.. يدخل المنصب الدستوري فقيراً.. ويخرج منه وهو أشد فقراً أو يدخله غنياً.. ويخرج منه أقل غنى.. ليس لعدو فيه مطعن ولا لشانئ فيه مغمز. برنامجه الذي يشغل به نفسه هو أن عمر الفاروق.. ممكن وأن عمر بن عبدالعزيز.. جائز.. وأن الولاية غرم.. وأن الإعفاء منها غنم. ليت للإنقاذ وللحركة الإسلامية من الصواب قدر ما لها من الخطأ.. إذن لسد صوابها خطأها كما قال الشاعر في تبع ابن كلكي كرب القيل اليمني الذي غزا يثرب وكاد يغزو مكة ويذهب بالحجر الأسود إلى بلاده اليمن ولكنه بعد ذلك عظّم الكعبة وكساها وحج إليها. قال الشاعر ليت حظي من أبي كرب.. أن يسد خيرُه خبلَه فليت حظ السودان من الحركة الإسلامية ومن الإنقاذ أن يسد خيرُهما خبلهما.