يزعم بعض المعاصرين أن الحقائق والقيم ترتبط ارتباطا وثيقا بالظرف الذي تنشأ فيه ، أيا كان هذا الظرف من شخصية المرء أو نظامه المعرفي أو ثقافته أو لغته أو زمانه أو مكانه . وبما أن الظروف تتعدد وتتغير فإن الحقائق والقيم تبعا لذلك نسبية . فما مدى صدق هذا القول؟ تزعم نظرية النسبية الفلسفية أن الحقيقة ليست إلا تصورا جزئيا للأشياء ، يعتمد في الأساس على الزاوية التى ينظر منها للشئ ، وبما أن زوايا النظر تتفاوت فالحقيقة كذلك متفاوتة ومتعددة . وعليه لا توجد حقيقة مطلقة يمكن أن يحكم بها على صحة أو بطلان الآراء ، بل كل الحائق نسبية حسب الظرف الذي تنسب إليه . ومن نتائج القول بنسبية الحقيقة القول بنسبية قيم الخير والشر أو ما يطلق عليه بالنسبية الخلقية . ولهذه المقولة ثلاثة عناصر أساسية: الأول أن تعريفات الخير والشر في الحياة الإنسانية متعددة وكل له أحقيته في القبول ، دون أن يكون هناك أي قاسم مشترك أو معيار لقبول تعريف دون تعريف أخر . الثاني: من الممكن إذن أن تتعارض قيم الخير والشر ولا تتفق ، وليس في ذلك من بأس ، بل كل حسب ما يراه صاحبه . الثالث: ليست هناك منهج عقلى أو نظام معرفي يمكن له أن يزيل التعارض بين قيم الخير بين مختلف الثقافات ولهذا فكلها خير . ومما لا شك فيه أن مدرسة النسبية الفلسفية تواجة نقدا عنيفا من جهات عديدة ، ولكنها أيضا تلقى قبولا متزايدا في كثير من الدوائر . ولا يسمح المجال هنا بذكر هذه الاعتراضات وردودها ، ويكفي الإشارة إلى أن قبول فكرة نسبية الحقيقة والخلق تعنى في النهاية العدم المحض لكل من الحق والخير ، لأن نفس الحق قد يكون حقا حينا وباطلا حينا آخر والخير خيرا حينا وشرا حينا آخر، فلا يبقى هناك حق ولا يبقى هناك خير . وييدو أيضا أن نظرية أن الظرف هو الذي يولد الفكر تغفل أمرا هاما وهو ما الذي يصنع هذا الظرف وهل لا فكاك من سجنه؟ قد يكون واضحا أن الإنسان بما أوتى من مواهب عقلية وقوي الإدراك والحس ، عامل مؤثر وفعال في تكوين ظرفه الاجتماعى والثقافي والمعرفي . فالظرف نفسه يمكن أن يكون حقا أو باطلا وطيبا أو خبيثا ، (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا) . ثم إنه من المشاهد أيضا أن الإنسان ليس سجينا للظروف لا ينفك منها ، ولقد عجزت العلوم الاجتماعية من تفسير الابتكارات والاختراعات وابتداع الأفكار الجديدة ، بغير اعتبارها شذوذا عن الأعراف السائدة . أما نسبية الحقيقة إذا كان المقصود بها أن علم البشر قاصر ومحدود ، إذ أنى للعقل البشرية إدراك الحقيقة كاملة فأمر مقبول ولا غبار عليه ، ولكن البشرية بما فيها من عجز وقصور قادرة على إدراك قدر من الحقيقة يكفيها في لتصريف شئون حياتها . ولكن نسبية الحقيقة المقصود منها في النسبية الفلسفية ، أن ما عند البشر من حقائق لا يمكن الاتفاق حوله والجزم بعمومه ، فصوابه وصدقه أمر جزئي خاص غير مطلق ولا عام . وهذا قول ينقض نفسه إذ أنه إذا سلم به على أنه حقيقة فهو عكس ما أريد نفيه . ومنهج الإسلام لاثبات الحقيقة يقوم على الدليل من العقل أو النص في القرآن أوالسنة ، ونصوص القرآن والسنة هى أيضا مملوءة بالأدلة العقلية لإثبات ما فيهما من حق وخير ، كما قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا) ، وما يتوصل إليه من حق أو خير باتباع المناهج العلمية لاثبات النصوص أو فهمها أو الاستنباط منها ، حقائق لا شك فيها . من المحتمل طبعا أن يحدث خطأ في اثبات نصوص الحديث ، أو يحدث خطأ في فهم نصوص القرأن أو السنة ، أو يحدث خطأ في الاستنباط منهما ، أو يحدث خطأ في الاستدلال العقلى ، ولكن كل هذا مسألة تعالج بمراجعة النظر في الأدلة وإزالة ما يكون من خطأ ، ولا يعالج بالقول بتعدد الحقائق كلها ونسبيتها لا حتمال الخطأ في بعضها ، كما تحاول التعددية الغربية أن تدعى حين أبطلت العلوم التجريبية ما كان يظن حقائق مطلقة في عصور أوربا المظلمة ، ثم تهاوت العلوم التجريبية حين عجزت عن حل معضلات الكون الكبرى وبات واضحا أن حقائقها تخطئ وتصيب . واحتمال الخطأ في الاجتهاد يعنى أن الحق واحد لا يتعدد ، يصيبه من يصيبه ويخطئه من يخطئه، وهذا رأي عامة علماء الإسلام ، إلا المعتزلة فقد ذهبوا إلى أن الحق يتعدد وأن كل مجتهد مصيب للحق . قال القرطبى: "وقد اختلف الناس في المجتهدين في الفروع إذ اختلفوا ; فقالت فرقة : الحق في طرف واحد عند الله , قد نصب على ذلك أدلة , وحمل المجتهدين على البحث عنها , والنظر فيها , فمن صادف العين المطلوبة في المسألة فهو المصيب على الإطلاق , وله أجران في الاجتهاد وأجر في الإصابة , ومن لم يصادفها فهو مصيب في اجتهاده مخطئ في أنه لم يصب العين فله أجر." والأدلة على أن الحق واحد لا يتعدد كثيرة ، منها أدلة في القرآن والسنة ، ومنها أدلة عقلية ، وتفصيل المسألة مبسوط في كتب أصول الفقة . فمما استدل به قول الله تعالى عن اجتهاد داوود وسليمان في القضية التى عرضت عليهما (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) ، فأثنى عليهما بالعلم وإصابة القول والعمل عموما ، وخص سليمان بإصابته الحق في القضية المعينة المعروضة . وقد ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا اِجْتَهَدَ الْحَاكِم فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اِجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْر" . ومن الأدلة العقلية أن تصويب رأيين متناقضين مثل " كون الفعل محظورا ومباحا ، أو صحيحا وفاسدا ، أو واجبا وغير واجب ممتنع لاستلزامه اتصاف الشيء بالنقيضين" .