لم أكن في يوم من الأيام متشائماً ولكنني شديد التأثر بما يُنشر حول الوطن وأهله وأحسب لكل خبر ينشر في هذا الصدد حسابه. فقد طالعت هذا الخبر: «كشف تقرير أصدره المجلس الأعلى للنهضة الزراعية في السودان عن تقلص المساحات المزروعة وتراجع إنتاجية المحاصيل مقارنة بالسنوات التي سبقت عام 2008 م. وحذر خبراء اقتصاديون من شبح مجاعة يهدد البلاد بحلول العام المقبل، ما لم تتدخل الدولة لمعادلة سياسة الاستهلاك والإنتاج التي شابها اختلال كبير أدى لفجوة وُصفت بالخطرة في أعقاب تنامي الاستهلاك، وتقلص الإنتاج» ومصدر انزعاجي لهذا الخبر كونه صادرًا عن جهة مسؤولة عن النهضة الزراعية وأعتقد أنها قد نعت نفسها بنشر هذا الخبر الذي يؤكد أنها لم تقم بالعمل المطلوب منها أبداً ولذلك وصل حال البلاد لما هو عليه الآن. ظل السودان يوصف دائماً بأنه سلة غذاء العالم وظل الشعار المرفوع في السنوات الأخيرة هو «نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع» فكيف بنا وقد مر على هذا الشعار أكثر من عقدين من الزمن و نحن لم ننتج ولا عشر غذائنا من مزارعنا بل حسبما أشار التقرير قد تناقصت مساحة الأرض المزروعة فعن أي نهضة زراعية نتحدث إذاً؟ ذلك مع توفر الماء والتربة الخصبة وأعداد كبيرة من ذوي الخبرة والخريجين من كليات الزراعة والبيطرة العاطلين عن العمل حتى هذه اللحظة. وقد رأينا كيف خرج الناس إلى الشوارع في الشهور الماضية منادين بخفض أسعار اللحوم في العاصمة المثلثة؛ وقضية السكر التي شغلت أذهان الناس ما زالت قائمة وفي أثناء ذلك يخرج علينا المجلس الأعلى للنهضة الزراعية بهذا الخبر وكأنه يحاول بذلك تبرئة ذمته أو محاولاً أن يرمي بالكرة في ملعب غيره؛ أليست هذه مسألة مثيرة للدهشة ومفارقة لا تستقيم عقلاً في بلد تعد فيه الزراعة والثروة الحيوانية هما عماد الاقتصاد والرزق لأكثر من نصف سكانه إن لم نقل الغالبية العظمى منهم. إننا إذا وجدنا عذراً للقائمين بأمر الدولة والحكم الآن في كثير من إخفاقاتهم السياسية والاقتصادية التي لا تعد ولا تحصى، فإننا لا نجد لهم عذراً في أمر يتعلق بمعيشة الناس مباشرة. فلو أنفقنا ما يُصرف على مؤتمر فاشل واحد ليس على المستوى القومي وإنما على مستوى أي ولاية لحصلنا على ميزانية تكفي لإقامة مشروع زراعي يوفر لقمة العيش والعمل لعشرات من الأسر السودانية؛ إذن الأمر يحتاج فقط لترتيب أولويات وليست معجزة اقتصادية أو إدارية. ولماذا نتبجح بتحقيق نسبة نمو اقتصادي لا نرى لها أثراً في واقع الناس ومعاشهم وكيف تتحدث الدوائر المسؤولة عن الاقتصاد والتنمية، والناس لا يجدون قوت عيالهم؟ ولعلنا نورد هذه القصة فقد ذكر «أن أحمد بن طولون رحمه الله كان يتنكر ويطوف بالبلد يسمع قراءة الأئمة، فدعا ثقته وقال: خذ هذه الدنانير وأعطها إمام مسجد كذا، فإنه فقيرٌ مشغول القلب؛ ولكن كيف اكتشف أنه محتاج؟ قال: عرفت شغل قلبه في كثرة غلطه في القراءة فقد صليت وراءه فإذا به يخطئ كثيراً فعلمت أن قلبه مشغول، و قد شغله فقرٌ فدفع إليه المال». هذه الحادثة تدل على أن الرجل إذا لم يجد ما يعول به أهله وعياله لا يمكن أن يُحسن التفكير فكيف بشعب كامل لا يجد ما يسد به الرمق ونحن في ذات الوقت ندعوه لحضور منتديات ومؤتمرات تناقش قضايا السياسة والتعليم والإعلام والسلام. وفي هذا السياق أيضاً «قال قيسٌ لابنِه: لا تُشاوِرَنَّ مَشغولاً وإنْ كان حازماً، ولا جائعاً وإنْ كان فهيماً، ولا مَذعوراً وإنْ كان ناصحاً، ولا مَهموماً وإن كان فَطِناً، وقيل: لا تُشاوِرْ مَن لَيسَ في بَيتِهِ دقيق. وكانَ كِسرى إذا أرادَ أنْ يَستَشيرَ إنساناً بَعثَ إليهِ بِنَفَقَةٍ سَنةً ثُمَّ يَستَشيرُه». فهل يا ترى يملك الذين ينظمون هذه المؤتمرات دقيقاً كافياً حتى إنهم لا يحسون بما يعانيه الشعب؟ أما إخوتنا في حكومة ولاية شمال كردفان فنسأل الله لهم العون؛ ذلك لأن الوضع هذه السنة قد يؤدي «لميتة وخراب ديار»! فالموسم الزراعي في كافة أنحاء الولاية كان فاشلاً بنسبة 100% لتوقف الأمطار قبل الحصاد؛ كما أن المرعى لا يكفي ولا حتى لشهرين ونحن ما زلنا في فترة «الدرت» وقد بلغ سعر ملوة الدخن عشرة جنيهات. ويتجه الناس الآن لبيع مواشيهم خشية الإنفاق عليها لأنها ستكلفهم ما لا يطيقون. والولاية كما تعلمون لا تكاد توفي بمرتبات الموظيف ناهيك عن تقديم أي عون للمواطن نظراً لضيق ذات يدها ولذلك نرى أن من الحكمة الإعلان عن فجوة غذائية وهي «اسم الدلع» للمجاعة! وحسب المثل الشعبي «الجري قبل الشوف قدله» و نحن هنا لا نهرب من عدو بل من أمر خارج عن الإرادة ولذلك فإن المطلوب تسخير كافة الإمكانات حتى نوفّر للناس لقمة العيش قبل أن يقع الفاس على الرأس لتفادي كارثة وشيكة الحدوث حسبما تدل المعطيات المتاحة حتى الآن. نطلب من المسؤولين في إدارة المخزون الإستراتيجي أن يخرجوا عن صمتهم و يعلنوا للملأ عن حقيقة ما لديهم من ذرة و قمح وغيره مما يأكل الناس حتى يطمئن الجميع وإلا شهدت البلاد موجة نزوح واسعة النطاق من كل الأطراف نحو العاصمة والمدن الكبرى وتكررت نفس المأساة التي شهدناها في ثمانينات القرن الماضي.. إنّ الناس لا تأكل كلاماً وتوصيات قد لا تجد أذناً صاغية بل خبزاً وكسرة ولذلك فلنتوقف عن الكلام والمؤتمرات ونبحث عن القوت قبل فوات الأوان. و لعل ميزانية هذا العام 2012 تلتفت لهذه القضية و تقدم لها حلاً ناجعاً.