رغم كثرة وتعدد الملفات والأحداث التي تشغل الرأي العام العالمي من مشكلات اقتصادية وتداعياتها أو بيئية وانعكاساتها على حياة البشرية أو إنسانية وترديها، إلا أن الربيع العربي وتفتُّح أزهاره الحمراء القانية جذب وشد الانتباه وتناوله بالتحليل والنقد والتقييم المختصون وغيرهم، فتباينت وجهات النظر العربي حولها، ففيها التخوفات وعليها التحفظات، والعرب أنفسهم البعض لا يزال مندهشاً والآخر منزعجاً ومضطرباً وآخرون في غفلة، إنما الصفة الغالبة إنهم جميعاً استيقظوا على أمر لم يألفه الشارع العربي ولم تألفه أسماع الحكام «أياً كان نوع حكمهم» إلا أن من تصدر وتربع في قلب الأحداث هم العسكر الذين بمواقفهم أعادوا إلى الساحة الجدلية الأزلية القديمة والمتجددة أيضاً عن دور العسكر في صنع القرار والأحداث أو إخراجها أو مساندتها وأحياناً وأدهاً واغتيالها. من عدة منطلقات تواثبت أقلام عديدة تتناول دور العسكر في العالم العربي وبصفة خاصة وسطه في الانقلابات الثورية العسكرية على الأنظمة الحاكمة وفي إسناد الجيش وانحيازه للهبّات الشعبية وبعض الجيوش تقمع الهبّات مما طرح مجدداً تناول دور العسكر في المراحل القادمة من تاريخ الشعوب العربية في ظل المتغيِّرات الداخلية «سوريا». حيث زيادة الوعي السياسي وتناقص أو تزايد الفوارق الاجتماعية لكل دولة حسب موقعها وموقفها الاقتصادي ثم يأتي التأثير بالتناقل أو بالمقارنة، ثم المتغيرات الإقليمية والدولية. بعض الأقلام والعقول رفضها لوثوب العسكر على السلطة مبعثه ومنطلقه مهني بحت بحيث رؤيتها أن كلاً لما سخِّر له «أي التخصصية المهنية» المرتبطة بالقانون والدستور الوطني، بعض الأقلام يحركها بغضها لقبيلة العسكر على اطلاقها لاعتبارات أنها تكرس للهيمنة وتركيز السلطة ثم السطوة وذلك بغض النظر عن إيجابيات فترات تحكم هذه الفئة.. إنهم دائماً ينظرون إلى الجانب المظلم من القمر. التدخل العسكري في الشأن السياسي بدولة ما مسبباته ومسوِّغاته لا تتعدى ضعف القيادة السياسية ومؤسساتها وبالتالي عدم تفعيل الدستور أو تجميده وكذلك تردي الأوضاع الاقتصادية أو أحياناً قد تكون الهزيمة الحربية سبباً مباشراً أيضاً للتدخل في الشأن السياسي حيث إن الرابط بينها قوي، قد يرى البعض أن هذه الأسباب كلها لا ترقى لمستوى تدخل المؤسسة العسكرية في الشأن السياسي ولكننا نلحظ واقعاً أنه كلما كانت القيادة السياسية ومؤسساتها فعالة وقوية وملتزمة ومشروعة تضع في أول سلم اهتماماتها القوة المسلحة إعداداً وتدريباً وضبطاً إدارياً ومالياً وبالتالي تتحقق سيطرة القوة السياسية على القوة العسكرية، ونشير إلى الصراع الذي دار في تركيا بين المؤسسة السياسية القوية بقيادة أردوغان الذي استطاع بحنكته السياسية واستناده إلى منطق الدستور والقانون بالإضافة إلى كسبه السياسي الكبير في الشارع التركي، مكّنه من السيطرة على المؤسسة العسكرية دون المساس بدورها الطليعي والطبيعي ودون المساس بقوانينها ولوائحها ونظمها الإدارية والمالية.عودة لأحداث الربيع العربي المستمرة ودور الجيوش في البلاد التي حل بها هذا الربيع وهو موضوع تناوله الأستاذ التيجاني موسى محمد بجريدة رأي الشعب الغراء بتاريخ 25/11/2011م الصفحة «7» بيت «الشورى» تحت عنوان «معمعية الجيوش في اتونية الربيع العربي» حيث تناول فيه العلاقات بين تلك الجيوش والسلطة الحاكمة وشعوب تلك البلاد وإلى أي مدى تقاعست تلك الجيوش أو ساندت شعوبها في صحوتها أو تمايزت صفوفها بين مؤيدة ومعارضة. أولاً لا بد من إثبات حقيقة أن الجيوش العربية ليست مؤدلجة بالمعنى الصحيح لتركيبة ومعنى الكلمة، صحيح أن هذه الجيوش قد تكون في بدايتها عشائرية، ثم تحولت تدريجياً إلى قوات دولة أو إمارة أو مملكة، وقد يكون بعضها تعرض لأدلجة كاملة وهذا ينطبق على الجيش السوري تماماً ومن قبله الجيش العراقي ولكن يبدو أن الأدلجة رغم طول فترتها لم تؤدِّ في النهاية إلا إلى ضعضعة كيان هذه الجيوش، صحيح أن هناك جيوشًا سُيِّست بالقدر الذي يحقِّق غايات من قاموا بذلك ولكن دون المساس بجوهر الفكر أو العقيدة «الدين» لقد تغيرت في هذه الجيوش العقيدة القتالية وهذه لا صلة لها بالدين إلا في تبني الجيش لأساليب وتكتيكات تكون نتاجاً للدروس المستفادة من الحروب والمعارك السابقة إسلامية أو غيرها. حتى وإن جاءت بعضها رياح التغيير فهي ظاهرية وليست جوهرية كالجيش المصري والجزائري والسوداني أما مجموعة كتائب القذافي فإنهم مرتزقة. القوات المسلحة السودانية تاريخياً تؤخذ دائماً مثالاً لحالات التدخل الإيجابي للعسكر في السياسة خاصة في التوقيت انحيازاً لإرادة الشعب أو انقلاباً على السلطة القائمة وقد يختلف معي الكثيرون في هذا الجانب ولكنها الحقيقة. تتفرد هذه القوات عن غيرها من جيوش المنطقة العربية أو الإفريقية بل وفي العالم إن قدرها الذي خلقه لها الاستعمار حتّم عليها التنقل بين بؤر الخلاف الموقوتة في أطرافه، وهي تنفجر في الوقت الذي يناسب أو يراه من وضع هذه القنابل، ثم إن الجيش السوداني يختلف عن بقية الجيوش في تكوينه وموروثاته وارتباطاته بمجتمعه وتفاعلاته. ورد في المقال وجود عقيدة غامضة بعد انفصال الجنوب ولا أحد يجزم ما إذا كان الجيش ستكون عقيدته العسكرية عربية أو إسلامية؟ أقول للأستاذ التجاني إن العقيدة القتالية لأي جيش مطلوب منها أن تؤمِّن متطلبات معينة للدولة مسلمة أو كافرة عربية أو غيرها، أولها تحقيق أمنها ثم صياغة أهدافها ومهامها القتالية مع الوضع في الاعتبار المواقف المختلفة أو المتباينة مع تشخيص التهديدات المتوقَّعة وغيرها من الأمور الكثيرة التي تتعرض أو المتباينة مع تشخيص التهديدات المتوقعة وغيرها من الأمور الكثيرة التي تتعرض لها العقيدة القتالية التي تقود في النهاية إلى التكهن والتنبؤ بطبيعة حرب المستقبل مع توصيفات للأساليب التي يمكن أن تجابه العدوان ووضع قواعد للمفاهيم الإستراتيجية وكل ذلك في النهاية يؤدي إلى إعداد الدولة لأغراض الدفاع عن حياضها. إذن فالعقيدة العسكرية مجموعة قضايا ذات أولويات لاحتواء العدوان بكل وسائله وأساليبه ثم وضع اهداف السياسة العسكرية للقوات المسلحة وهذه بالمناسبة لا تخرج عن الدفاع والحفاظ على أمن وسيادة البلاد داخلياً وخارجياً على الحدود وتشمل أيضاً بناء القوات المسلحة بكل صنوفها ثم أخيراً السياسة التسليحية تبعاً لما يحقق هذا التسليح من تفوق وقوة للقوات المسلحة في كل الأدوار التي تقوم بها أو تزج فيها، إذن أيضاً هذه العقيدة لا صلة لها بكون الدولة عربية أو إسلامية. لندع فكر الإنقاذ عند اندلاعها جانباً، إن ما جرى من تجييش لشرائح المجتمع السوداني في فترة ما، لقتال أو نفرة مجتمعية، لأهداف وغايات معينة إنما كان إعداداً لها لتحمل تبعات التغيير الكثيرة، ولمواجهة مهددات خطيرة، ولقد جاء الإعداد بأساليب عديدة فمنها ماله صلة بالدين والعقيدة، وآخر ماله صلة بتركيبة المجتمع السوداني «العقد الاجتماعي» وثالث ماله صلة ببعث روح القتال في كل مجاميع الشعوب دون استثناء «ديناً أو لغة» نعم قد تكون المظاهر الإيجابية التي حلت مكان السالبة لها بالدين أو الموروث المجتمعي صلة وهذه لا ينكرن أحد أنها غيّرت المفاهيم بالتبادل بين العسكر والمجتمع علماً بأن المجتمع ليس كله مسلماً، فأين الأدلجة؟. إن الدفاع الشعبي بحسابات النسبة والتناسب الديمغرافية للاثنيات وأصحاب المعتقدات الأخرى لم يكن ليؤدلج كل المجتمعات السودانية وإنما كان أو هو كذلك استثارة طاقات كامنة وقدرات ساندة وجهت في مساراتها الصحيحة، وذات الأمر ينطبق على الخدمة الوطنية فهي في غاياتها تربية لأجيال، ومقتضيات هذه التربية كثيرة ومتعددة أولها تحصين المستهدفين فبماذا يكون التحصين وماذا نتوقع أن يكون حال الجيش بعد سنين عددا؟ إلا التمسك بموروثاته وعقيدته، إنها تربي، ورغم ذلك لا صلة بعقيدة الجيش القتالية حسب ما أعلم بالدين إلا في مواضعه المعلومة. كما ذكرت سابقاً أراد المستعمر أن يمر السودان في مسيرته بمحطات فيها التشظي الكلي أو الجزئي لينفلق الجنوب، أما الانهيار كما يتوقعه الأستاذ التجاني بحكم معطيات الواقع فذلك ليس بوارد. في تاريخ السودان السياسي والعسكري لم نجد أن رفد أو إلحاق القوات المسلحة بأبناء زعماء العشائر والبيوتات والزعامات السياسية وقف حائلاً دون قيام الانقلابات والانقلابات المضادة ولأغراض سياسية دموية كانت أو بيضاء، وفي الوقت ذاته لم تكن السطوة الأيديولوجية لأي انقلاب عسكري لتقوى أو تستطيع أدلجة الجيش بمفهومها الصحيح رغم مكوث بعضها لسنوات طويلة «ثورة مايو بفكرها المعروف والمعلوم وتوجهها السياسي والعسكري». إن التكوين النفسي والاجتماعي والعقدي والاثني أخيراً للقوات المسلحة وترابطها يجعل من السهل تشكيلها «صياغتها» وتنظيمها وصياغة تقاليدها بالأسلوب الذي يتماشى ولا يتعارض مع موروثات الشعب من قيم فاضلة وآداب وكلها من الدين، والأمر هكذا «جيش واحد شعب واحد»، وكل هذه الروابط لا ينبغي أن تسمى حال الجيش السوداني أو القوات المسلحة أو توصف بالمؤدلجة بمستوى الجيوش حاملة الصفة، وإذا كان انتظام العسكر في صلواتهم واصلاح علاقتهم بربهم ودينهم أدلجة فمرحباً بها. الاستخلاص الذي خرج به الأستاذ التجاني من جاريات الأحداث وواقع الجيوش العربية ومقارنة واقع الجيوش مع واقع الدول حكاماً ومحكومين، قاده إلى حقائق يراها هو وقد يختلف الناس معه فيها وأول الأمر لا بد من إثبات أن العسكر عموماً ليسوا طلاب حكم ما لم يتقاعس السياسيون عن أداء واجباتهم ومهامهم كما ينبغي ويُفترض.. ثانياً إن العقيدة العسكرية لدول الربيع العربي السابقة واللاحقة سيطولها تغيير، قلب الطاولة، أو تغيير زاويتها إلى زاوية عكسية تماماً. الروح القتالية وتغييرها ببروز عناصر لا علاقة لها بماضي الجيوش المنهكة أو الموجهة والمعدة لسحق المواطن، ردنا عليه بأن الروح القتالية للجيوش هي إرث متوارث من الماضي التليد للدولة والشعب والجيش والمجاهدات والمقاتلات التي جرت في حقب الصراع لنيل الاستقلال أو من تاريخ الجيوش العربية والإسلامية والغربية حيث الاستلهام من الوطن ومن الجوار عربياً أو إفريقياً ثم عالمياً بما يحقق الارتقاء بالمستوى التدريبي ثم القتالي. إنها خبرة القتال المتراكمة المعتقة التي تكسب الجلد والثبات للجديد من القديم، ثم من قال إن اسلحة الجيوش موجهة لسحق المواطن بها. إنها الأحداث أخي التجاني التي يركب صهوتها الطامحون الراغبون في الفوضى بما يؤدي إلى تدخل الجيش ولكن في حدود ما عجزت عنه الأجهزة الأمنية الأخرى وعندها فقط أخي تتمايز هنا أيضاً الصفوف طالما المطلوب ضرب الشعب، الجيش واع تماماً لما هو فيه وعليه وما هو مطلوب منه. نعم قد تقود أحداث الربيع العربي إلى مواجهة أمور عديدة مثل الجامعة العربية وآليات التنفيذ فيها، ليعاد صياغتها شكلاً ومضموناً وهدفاً ثم وضع إستراتيجية للعمل ونعود مرة أخرى لموضوع العقيدة القتالية التي تدخل في صياغتها عوامل سبق ذكرها، لدى الدول العربية سابقة تكوين قوات الردع العربية التي عملت في لبنان. إن شرعية الجيوش لا تنفصل عن شرعية مؤسسات الدولة الأخرى، لذا فهي أصيلة وشريكة ومحايدة فقط في التصارع السياسي النظيف النزيه المفضي إلى خيار الشعب لا خيار النخب المتشاكسة أحياناً.. إن أي قوة مسلحة مهما صغر حجمها، دولتها فقيرة أم غنية، تظهر فيها دائماً الأفضلية التنظيمية عما سواها من التنظيمات الأخرى داخل الدولة فهي تضامنية الهوية، تمتلك السلاح والخبرة معاً، وعموماً هناك خلاف حول تدخل الجيش في السياسة وفي هذا الأمر معارضون ومؤيدون ويبقى أمر هام يخصنا في المنطقة العربية أو القوات المسلحة السودانية وهو أن تكون القوة العسكرية هي البذرة أو الغرس الجيد القابل للإنبات والنمو في كل الأجواء ليثمر ويتدفق عطاؤها دون منّ أو أذى ويلف غطاؤها كل أبناء الوطن.. إن وضع قوة القوات المسلحة يشعر الجميع بالأمن والأمان. ختاماً إن السودان ليس استثناءً، من المناخ العربي العام وقد يكون ربيعه شاتياً أو صيفياً «عكس الطبيعة» ولكنه قطعاً يتأثر بعوامل كثيرة في تأخره أو تباطؤه، أو تجاوزه أو اجتياحه الفجائي خلافاً لكل التوقعات، ثم إن هذا الربيع قد يجيء ربيعاً فعلياً على الطبيعة «يعني بزيادة فصل» وعلى الواقع أيضاً بانصلاح الحال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والعسكري وكل ذلك رهين بالاعتبار من الدولة التي لا تخشى الربيع بما جرى حولها كما أعلنت.