ما إن يحين أوان الانتخابات حتى يتبارى المرشحون على المستويين التشريعي والتنفيذي في مارثون محموم للفوز برضا المواطن، ووسيلتهم في ذلك بذل الوعود البراقة بسخاء، تلك التي مفادها تلبية كل احتياجات الدائرة، وما إن يستقروا في مقاعدهم التشريعية ولائية كانت أم اتحادية حتى تتباين ردة فعلهم إزاء قضايا المناطق التي يمثلونها، فهنالك من يتجاهلها وكأن شيئًا لم يكن، وفي المقابل هناك من يجتهد لتوفير الخدمات التي تحتاج إليها دائرته، وفريق ثالث يجد نفسه في مواجهة ما يمكن وصفه بالنيران الصديقة، من قبيل الوفاء بالتزاماته حيال مواطنيه الذين رجَّحوا كفته على منافسيه، والامتثال لتوجهات حزبه الذي ترشَّح باسمه، وبموازاة ذلك ثمت استثناءات أخذت الطابع الفردي أولاً، وما لبثت أن اتخذت طابع السجال البرلماني مؤخرًا، كما في حالة زيادة أسعار البنزين التي أقرَّها مجلس الوزراء، وأصرَّ عليها وزير المالية علي محمود وناصره قلَّة من النواب، إلا أن كتلة نواب الوطني! رفضت الزيادة وأسقطتها في مداولاتها بالبرلمان.. تمترس النواب برفضهم للزيادة يتكئ على خلفية الخشية من أن تفضي لإطلاق شرارة الربيع السوداني التي تبشر بها المعارضة وتحذرها الحكومة، فضلاً عن ما يمكن تسميته بوادر رأفة على (الناس المساكين) بحسب توصيف د. العتباني. ومن الأحداث الذائعة في ذلك السياق شدة الانفعال التي دفعت بعض النواب للإجهاش بالبكاء علنًا في البرلمان، ومنهم وزير الدولة بالخارجية د. منصور يوسف العجب العضو عن كتلة التجمع ببرلمان نيفاشا المعين وكان ذلك في أكتوبر 2009، والذي أبدى خشيته من انهيار الأوضاع في منطقة الدندر جرَّاء الفجوة الغذائية التي تمرّ بها، وما لبث أن انفجر بالبكاء أمام الصحفيين، كما انخرط النائب البرلماني عن ولاية شمال كردفان مهدي عبد الرحيم الأكرت في مايو الماضي في نوبة بكاء تعبيرًا عن إحباطه وحزنه لإجابة وزير المالية غير المقنعة لدى سؤاله عن طريق بارا أم درمان الذي تأخر البدء في رصفه، ولم يكتفِ الأكرت بالبكاء بل مضى مهدِّدًا بانسلاخ ولايته عن المؤتمر الوطني والحكومة، أما أحدث نسخة في تعاطي النواب مع قضايا مواطنيهم فهي أزمة المناصير المعتصمين في ميدان العدالة بنهر النيل، احتجاجًا على عدم توطينهم حول بحيرة سد مروي ضمن ما عُرف بخيار التوطين المحلي، ورغم اعتراف حكومة الولاية بعدالة قضية المناصير إلا أن الأزمة ما زالت في تصاعدٍ مستمر، فقد تبنَّت المعارضة القضية وأدرجتها ضمن حزمة قضايا أخرى وشكَّلت لجنة خاصة للاهتمام بها، بدورهم طالب المناصير ممثلهم في البرلمان محمد سليمان البرجوب بطرح قضيتهم في البرلمان أو تقديم استقالته، مما فاقم القضية أمام البرجوب بعد تمسُّك المناصير بمطالبهم التي أخذت طابع المغالاة في تقدير الحكومة، ومنها إنشاء مفوضية قومية لمتابعة تنفيذ مطالبهم، فضلاً عن المطالبة بإقالة وزير السدود والكهرباء المتنفذ أسامة عبد الله بحسب بعض المسؤولين في المركز والذي «حار» جوابًا لدى سؤاله عن تطاول صمت الخرطوم عن أزمة المناصير حتى تعاظمت على النحو الذي هي عليه اليوم، تبعات الأزمة تجعل البرجوب في موقف لا يُحسد عليه خاصة بعد فشل المفاوضات الأخيرة بين حكومة الولاية والمناصير، فضلاً عن شبهة التدويل التي قد تلحق بالقضية، ولعل أكثر القضايا تشعبًا وتعقيدًا في تعارض مواقف النواب مع حزبهم والحكومة، تجلت في إجازة قانون استفتاء أبيي أكتوبر 2009، الذي أُجيز في جلسة عاصفة في ظل انسحاب نواب دوائر المسيرية في أبيي احتجاجًا على بعض نصوص القانون خاصة المادة 24 التي أشارت في تعريف الناخب إلى دينكا نقوك وتجاهلت المسيرية، ولا تزال أبيي تشكل أحد الهواجس التي يمكن أن تعيد دولتي السودان والجنوب لمربع الحرب من جديد، وفي ذات السياق أبدى القيادي بالمنطقة الفريق «م» مهدي بابو نمر ملاحظة حول خطاب رئيس الجمهورية الأخير في البرلمان من زاوية عدم إشارته من قريب أو بعيد لأبيي، ووصف السكوت عنها مثل من يغطي النار (بالعويش)، وفي إشارته لمدى التعقيدات المصاحبة لأزمة أبيي شبهها في حديث سابق ل (الإنتباهة) ب (بيضة أم كتيتي، لو شلتها قَتَلَتْ أبوك ولو خليتها قَتَلَتْ أمك)، وأضاف أنهم لا يرون أي جدوى من الجولات المكوكية التي يجريها مبعوث الاتحاد الإفريقي ثامبو أمبيكي بين الدولتين، وأشار إلى أن رؤيتهم أن الحل بين يدي قبيلتي المسيرية والدينكا وحدهم، وأبدى الفريق بابو «لا مبالاتهم بتجاهل أبيي» أو ذكرها في خطابات المسؤولين وأردف قائلاً: (نحن مستعدين نشيلا برانا)، ذُكرت أو لم تُذكر. وفي مقابل تلك المنغصات التي يواجِهها مرشحو الدوائر الجغرافية ينعم نظراؤهم في القوائم النسبية وأبرزهم النائب الأول للرئيس بالبعد عن تلك المطبات المحرجة، ويبقى أن نشاز النواب في مواجهة أحزابهم أو أحزاب ذات أغلبية في البرلمان «يفرق كثيرًا» عن برلمان تتوازن فيه أصوات القوى السياسية الحاكمة والمعارضة، بحيث يكون للأخيرة وجود ضاغط ومؤثر على قرارات الحكومة، ولاّ إيه؟.