لا غرو ان قلت ان تعدد العوامل السياسية في ظل الامن والسلام اوجدت انماطاً مختلفة للحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في ولاية جنوب كردفان .. ولا عجب إن قلت ان تعدد وتداخل القبائل العربية والافريقية بتمازجها شكلت تنوعاً ثقافياً وعرقياً بالاضافة للتباين الديني .. وجعلت من التعدد الثقافي سمات مميزة للون السياسي الذي تعرف به ولاية جنوب كردفان منذ الاستقلال ولما نال السودان استقلاله في عام 1956م لم يتدارك حكامه آنذاك الى جنوح هذا التنوع الثقافي وتحوره نحو الاثنية والقبلية والجهوية مما اثر في اتجاهات التفكير الوطني وأثر تأثيراً بالغاً على البناء الوطني والمحافظة على وحدة الدولة الوطنية.. وهذا بالطبع مؤشر خطير إن لم تتداركه الإنقاذ والممثل في القدرة على ادارة هذا التباين الثقافي والقبلي والاثني والديني واللغوي والعنصري.. ولم ينجُ الحراك السياسي المسلح في ولايتي جنوب كردفان والنيل الازرق من الاسباب التي اضحت عوامل شد وجذب وخلاف بين المركز والأقاليم والممثلة في العدالة وقسمة السلطة والثروة.. الا ان هذه المحاور الثلاثة السلطة والثروة والعدالة اصبحت ذرائع تستخدمها المعارضة واجهات لتحقيق مآربها وقد تبلغ حد السفور عندما تعلنها مدوية كما نادى بها المتمرد عبد العزيز الحلو ومالك عقار بانهم يحاربونا من اجل العلمانية والديمقراطية!؟. فالولاية بعد توقيع السلام بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية قطاع جبال النوبة.. عاشت اعظم فترة سلام امني واجتماعي قامت على اكتافه مشروعات تنموية هائلة شملت كل مستهدفات المشورة الشعبية بدأت بتنمية انسان الولاية وشملت كل قطاع التعليم والصحة والمياه والكهرباء والمشروعات الزراعية الواعدة والطرق المعبدة والتي عبدت اكثر من الفي كيلو متر كما ضمت الجسور والكباري والمزلقانات ولأول مرة يسلم انسان الولاية من شرور «خور العفن» ولقد اكتمل الميناء البري والعديد من الوزارات واكبر صرح لإستاد الكرة في السودان بل وفي افريقيا هو استاد «مرتا» ولقد تحرر انسان الولاية من الظلم الاجتماعي الذي وقع عليه قبل سنوات الحرب ولم تعد الولاية تتبرم من سياسات المركز كما كانت تعاني بالأمس، فالولاية ومنذ توطين دعائم الوفاق عملت على محو آثار الظلم فكسرت بذلك الحاجز النفسي.. وقامت الولاية بالتوزيع العادل للخدمات الضرورية عكس ما كانت عليه سياسات الحكومات السابقة.. فالسياسات السابقة افرزت العديد من عوامل الهدم التي ادت الى عدم الاستقرار ونزوح أبناء الولاية.. دون تمييز قبلي أو اجتماعي أو ديني بحثاً عن التعليم والصحة والسكن الآمن بالإضافة للعمل.. توفيقاً لأوضاعهم المعيشية في المدن الكبرى لينتهي بهم المقام في مخيمات النازحين ومعسكرات السكن العشوائي.. اما بعد استتباب الأمن بالولاية وفتح مشروعات التنمية .. اصبحت الحاجة ماثلة للأيدي العاملة.. فكانت ان فتحت ابواب العودة الطوعية.. وتم استيعاب العائدين في الوظائف التي خصصت لهم «وظائف الدمج»... كما استوعبت المشروعات التنموية اعدادًا كبيرة من الأيدي العاملة.. وفي ظل هذا المناخ التصالحي والوفاقي تنادت مجموعات كبيرة من النخب ولاسيما العاملين في مجال البحث العلمي وأولئك المنشغلين بامور السياسة بقولهم .. ان الخمس سنوات التي أُريد بها التمهيد للمناخ التصالحي.. حيث يدعم بذلك قواعد السلام ومن ثم تقوم المشورة الشعبية.. يرون ان الخمسة سنوات.. مرت عجلى .. فيرون يا حبذا لو مدت هذه المدة بخمس سنوات اخرى .. لتقوية عوامل الثقة بين الحركة الشعبية والوان الطيف السياسي وعلى رأسها المؤتمر الوطني، وكذلك تكون مستهدفات المشورة الشعبية واضحة للعيان .. في هذه الفترة وما يعتريها من حراك سياسي داخل الولاية.. موجهة وغير موجهة نحو انسان الولاية .. الا انه يجد نفسه واقفاً مع احد المعسكرين المؤتمر الوطني أوالحركة الشعبية او متعاطفاً مع احدهما .. لم تمر الأحداث بهذه الولاية .. قاصرة على احداث الولاية في الداخل .. هنالك من الاحداث التي تتجاذب اطراف الولاية وفي مركزها .. فهنالك ما طرأ في تغيير خارطة الولاية وولايات التمازج وما تفرزه من قضايا تمس الامن وقضايا الحدود وما تخلفه من نزاعات بالنسبة للقبائل الرحل وبحثها السنوي عن الماء والكلأ وقضية ابيي وتطبيع مرحلة مابعد الانتخابات الديمقراطية .. ويأتي في نفس الزخم .. الاستفتاء ويعكس من قضايا تتعلق بالامن والسلام والحدود «كما هو حادث الآن بقرية جودة» بالنيل الابيض ثم مستحقات المشورة الشعبية لشعبي ولاية جنوب كردفان والنيل الازرق. * وضع الولايتين ومفهوم الجغرافيا السياسية.. ذهب البعض ان نظرية اللامركزية تحمل في فلسفتها مفهوم الجغرافيا السياسية.. وفسر بأنه علم يربط البُعد الجهوي والجغرافي بالبُعد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والآيديلوجي .. وبالتالي يعتبر هذا العلم من العلوم الإنسانية لهندسة اتجاهات الشعوب والمجتمعات.. فالأحزاب ذات النظم القيادية والقدرات المالية تستطيع ترتيب أوضاعها الجهوية وفقاً لرؤيتها الإستراتيجية وبذلك تنفذ لتحقيق اغراضها وفقاً لممارسة علم الجغرافيا السياسية.. ولقد كان الحزبان الكبيران «حزب الامة القومي والحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل».. قد مارسا علم الجغرافيا السياسية جهوياً وعقائدياً لسنوات خلت الا ان غياب الرؤية الإستراتيجية بشكل واضح ادى لان تفقد هذه الاحزاب جل عضويتها بمتغيراتها الجهوية والاجتماعية وما احدثه الحراك السياسي والاقتصادي في قواعدها التقليدية.. ومن هنا يجب علينا ان نعترف بان السودان كنظام حكم يحتاج لصياغة حتى يستوعب التجانس العرقي والجغرافي والجهوي والايديلوجي في حده الادنى ليؤسس عليه نظام للحكم اللامركزي حتى تتمتع اطراف السودان بسلطات وصلاحيات سياسية وتنفيذية تحقق الاستقرار الاجتماعي والامني وتبني قاعدة اقتصادية برؤية ورسالة استراتيجية واضحة لأن القبضة المركزية لن تزيد الاوضاع الا سوءًا وتعقيداً ..!! فنحن الآن في حاجة لبناء نظام حكم لامركزي ليستوعب التفاعل الحقيقي للمجتمع السوداني في اطار تباينه الجهوي والجغرافي الاثني واللغوي .. ان المتغيرات التي ابانها علم دراسة المستقبل اظهرت عيوبًا خطيرة تهدد انسان البدو قبل الحضر وان الزحف البشري نحو الحضر يقلص فرص الحفاظ على الرقعة الزراعية والحيوانية وانتاجها وان اهمال شؤون البدو وعدم الاهتمام بدراسة اوضاعهم والعمل على حل مشكلاتهم يزيد من رقعة النزاعات في الحيز الجغرافي الذي تشغله هذه القبائل.. وهذا يقودنا بالطبع لملف قضية ابيي الذي اضحى كالبركان الخامل والذي يهدد باستمرار انسان تلك المنطقة الآن وفي المستقبل القريب، كما ان انفصال الجنوب فتح ملفات اخرى .. ان لم نتداركها ونعمل على معالجتها.. سوف يستمر الزحف نحو المركز وهي استراتيجية اسرائيلية قصد بها تفتيت السودان، واذا ما القينا الضوء على الجهود العظيمة التي قامت بها الولاية تحسباً للانفلات الامني في المناطق الحدودية بين القبائل الرعوية والجيش الشعبي (SPLA) في مجال امن المرعي والمياه بانه تم اعداد اكثر من ثلاثمائة بئر جوفية وحفائر وسدود ورهود تكفي حاجة كل القطعان في فصلي الشتاء والصيف وتحمي هذه القطعان من عمليات القرصنة التي يمارسها الجيش الشعبي (SPLA)، اما بالنسبة للمراعي فهي تفي بالحاجة الآن .. ومازالت الدراسات في هذا الشأن مستمرة لتوفير الأعلاف بنثر حبوبها صيفاً عن طريق الرعاة وانسان تلك المناطق وهذه التجربة سبقت لها قبائل «الماساي» الكينية فهي قبائل رعوية استطاعت تحقيق وتوسيع رقعة المراعي عن طريق تجهيز حبوب الأعلاف ونثرها في كل الأشهر فتحققت مراعٍ كبيرة وذات جدوى عالية. كانت الولاية .. تسير على هدى الوفاق بسلاسة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية حتى صبح نتائج الانتخابات فقلبت الحركة ظهر المجن وبددت السلام الى حرب ضروس لم يسلم منها انسان الولاية وارجعت الولاية الى المربع الاول الى حرب دامت عشرين سنة لم يستقر فيها انسان الولاية حيث انه كان يرفل في بؤر التخلف والجهل، وبذلك اصبحت الولاية وبكل قدراتها تحاول محاولة جادة اعادة السلام من جديد.