أ/ حسن عبد الحميد- صحفي وكاتب سوداني التاريخ السوداني المعاصر معرّض للضياع والتحريف والتجيير بسبب كسل صناع الأحداث والمؤرخين والإعلاميين والمثقفين عمومًا عن تسجيله ومتابعة خباياه وتحليل وقائعه واستنطاق أبطاله وإلقاء الضوء على مساره الرئيس ومنعرجاته الفرعية؛ وهذا يفتح الباب واسعًا للادعاءات العريضة ويتيح لغير المختصين الافتاء في الشأن العلم بغير علم مما يستتبع خسارات فادحة من زاوية بيان الحقائق واستخلاص العبر.. وقد حدّثني الشيخ صادق عبد الله أنه ألحّ على الرئيس الراحل جعفر نميري بعد عودته الأخيرة من القاهرة أن يكتب عن الفترة التي قضاها رئيسًا للسودان وقد امتدت لأكثر من عقد ونصف من الزمان؛ فوعده بذلك لكنه لم يكتب شيئًا حتى عاجلته المنية؛ والتسويف مضرّ بالبحث العلمي التاريخي؛ خاصة أن فترة الرئيس نميري شهدت أحداثًا ضخمة محليًا وإقليميًا ودوليًا وأثارت جدلاً واسعًا لم ينته حتى الآن. أسرد هذه المقدمة لأني أشعر بحسرة عميقة وينتابني قلق عريض كلما وافت المنية أحد صناع تاريخنا المعاصر أو أحد شهوده القلائل؛ وعاودتني هذه الأحاسيس يوم الخميس الماضي الثامن من ديسمبر 2011م عند سماعي لنبأ وفاة شيخنا الدكتور عبد الله محمد يوسف أحد مجاهدي الحركة الإسلامية السودانية الذي انتقل إلى رحمة مولاه بعد حياة حافلة بالعطاء والمجاهدة في شتى الميادين؛ ولعل الكثيرين من السودانيين حتى أبناء الحركة الإسلامية المعاصرين لا يعلمون الكثير عن حياة الفقيد الكبير. الشيخ الدكتور عبد الله محمد يوسف تخرج في كلية البيطرة جامعة الخرطوم أواسط سبعينيات القرن الماضي، وقد كان مجمع شمبات الذي يضم كليتي الزراعة والبيطرة آنذاك أحد معاقل الحركة الإسلامية يموج بالكوادر القيادية ويزخر بالنشاط الدؤوب؛ وعندما تكوّنت الجبهة الوطنية لمواجهة نظام النميري اليساري في بداياته؛ وقررت منازلة النظام عسكريًا؛ لبّى الشيخ عبد الله محمد يوسف النداء مع إخوانه الذين ضمتهم صحراء الكفرة بليبيا في التدريب العسكري؛ ثم شارك في العملية العسكرية الجريئة التي جرت في الثاني من يوليو 1976م التي أربكت نظام نميري وكادت تودي به، وقد كان الشيخ عبد الله ممن أوكلت إليهم مهمات عسكرية في مطار الخرطوم. وحركة يوليو التي سمّاها إعلام نميري بحركة المرتزقة؛ تحتاج إلى سفر منفصل يحكي دواعيها ومساراتها ودلالاتها؛ لأن الجدال ما زال محتدمًا حول جدواها العسكرية وآثارها السياسية خاصة وقد تمخّضت عن المصالحة الوطنية بعد عام واحد مما أثار احتجاجًا واسعًا في صفوف كل من الأنصار والإخوان المسلمين والاتحاديين، وقد مضى إلى ربه شهيدًا نفر من خيرة أبناء الحركة الإسلامية أمثال عبد الإله خوجلي وعبد الله ميرغني وحسن سلمان وغيرهم؛ كما فقد الأنصار رتلاً آخر من الشهداء الذين لم يجدوا من يسجّل بطولاتهم حتى الآن رغم اجتهاد الأستاذ عبد الرسول النور في تسليط الضوء في مقالات صحفية على تلك الفترة؛ لكنها تحتاج للمزيد. خاصة أن معظم المشاركين في تلكم الأحداث مازالوا أحياءً وبعضهم وزراء ومستشارون في الحكومة الحالية أمثال الدكتور غازي صلاح الدين وأحمد سعد عمر، وبعضهم في المعارضة أمثال الشيخ إبراهيم السنوسي والصادق المهدي وغيرهم. تعرفت على الشيخ عبد الله محمد يوسف منتصف ثمانينيات القرن الماضي بمنزله ببحري شمبات عقب سنوات من المصالحة الوطنية أواخر عهد الرئيس نميري، وكنا وقتها طلابًا في بداية المرحلة الثانوية وقد كان رحمه الله ناشطًا في العمل الإسلامي العام، فكان يقيم عددًا من الدروس، وقد كان يشرف على تحفيظنا القرآن الكريم بأحد مساجد الصافية؛ وقد كان رحمه الله مثالاً للعالم العابد الزاهد، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدًا. ولأنه كان يحب الجهاد حبًا شديدًا؛ فقد انتظم مع المجاهدين العرب الذين تصدوا لمنازلة الغزو الروسي لأفغانستان، ومكث مرابطًا هناك فترة طويلة؛ وقد كان يحدثنا كلما قدم من هناك عن معارك وكرامات المجاهدين الأفغان، وقد أبلى بلاءً حسنًا نسأل الله تعالى أن يتقبل جهاده. وبعد انتهاء الجهاد الأفغاني ضد الروس والشيوعيين الأفغان ودخول المجاهدين إلى كابول؛ عاد الشيخ عبد الله إلى السودان واعتزل الفتن التي حدثت بين المجاهدين الأفغان بعد دخول كابول؛ ثم اتجه إلى العمل الخيري والإغاثي؛ فعمل أول مدير لجمعية قطر الخيرية أواسط تسعينيات القرن الماضي؛ وقد أرسى أركان هذه الجمعية الرائدة ووضع اللبنات الأساسية في مسيرتها الخيرية، وتُعتبر قطر الخيرية بحق إحدى أبرز المؤسسات الخيرية العاملة في السودان؛ نسأل الله تعالى أن يُثقل بهذه الأعمال حسنات شيخنا الفقيد. لا أستطيع أن أحيط بسيرة ومسيرة الراحل الفقيد في هذه العجالة؛ فلست مؤهلاً لذلك لعدة أسباب منها أني لا أحيط بمعظم حياته وإنما أكتب عما عاصرته وشاهدته فقط وهو قليل من كثير؛ ومنها أن صروف الدهر قد فرّقت بيننا زمنًا طويلاً فلم أعد ألقاه منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي كثيرًا؛ حتى أني في السنوات الأربع الماضية لم ألتقه قط؛ لكني أدعو زملاءه وتلاميذه وعارفي فضله أن يسجلوا ما يعرفونه عن سيرة الفقيد العطرة؛ خاصة ما يتعلق منها بالأحداث العامة مثل أحداث يوليو 1976م التي لم تجد حظها من التدوين والتسجيل والنقد والتمحيص... ألا رحم الله الفقيد رحمة واسعة وألهمنا الصبر وحسن العزاء.