ما حدث الأسبوع الماضي لم يكن حدثاً عادياً في عالم الصحافة السودانية. مجلس إدارة جريدة «الأهرام اليوم» اتخذ قراراً أعفى بموجبه رئيس التحرير الأستاذ الهندي عز الدين. لم يمض وقت طويل حتى جاء حكم المحكمة في صالح الأستاذ الهندي عز الدين وتم تعليق ذلك الإجراء ومن ثم عاد الأستاذ الهندي لممارسة عمله وسط زفة احتفالية كبيرة. ولسوء حظ مجلس الإدارة فقد اختار توقيتاً غير مناسب بالمرة لأنه جاء والجريدة تحتفل بإطفاء شمعتها الثانية واستقبال فجر الثالثة. والعامان السابقان يحسبان في إنجازات رئيس التحرير المقال. إن وجود سلطات في أيادي مجالس إدارات الصحف يتم بموجبها إعفاء رؤساء التحرير أمر يحتاج إلى إعادة نظر. فرئيس التحرير ليس شخصاً عادياً مهما كان الرأي في أدائه المهني. فهو الذي يحمل عبء أية دعاوى ضد الصحيفة وهو الذي يُجرجَر أمام المحاكم وهو الذي يمكن أن يُحكم عليه بالسجن في قضية نشر أو ربما يدفع حياته ثمناً لمقال نشره أحدهم في صحيفته كما حدث للمرحوم الشهيد محمد طه محمد أحمد رحمه الله. وعليه فالاستغناء عن خدماته بخطاب من مجلس يجب أن يتم التداول بشأنه في اتحاد الصحفيين. وأنا أكتب هذا المقال ليس من فراغ بل من تجربة خضتها وسأذكرها بعد حين. ولعل من المجازر المشهورة في تاريخ الصحافة السودانية تلك المجزرة التي قادها الدكتور جعفر محمد علي بخيت رحمه الله عام 1973م إبان العهد المايوي التي بدأها بسلسلة من المقالات وبشر بصحافة جديدة «لا يلقيها القارئ وهو بها غير شغوف» وهو يقول عن الصحافة التي كانت مملوكة للاتحاد الاشتراكي «كانت في الواقع صحيفتان: الأيام والصحافة». يقول الدكتور: «صحيفة الاتحاد الاشتراكي يتجاذبها أسلوبان أسلوب جريدة الحزب وأسلوب الجريدة المستقلة القديمة .. الأول يملأ النفس غثياناً بتصلبه الصارخ وبخوره المغالى فيه والآخر يتصنع قول الحق بمحاولة الانسلاخ عن الكل والالتزام بلا شيء» إه. ووفقاً لذلك قاد حملة «تطهير» واسعة أعاد فيها تشكيل مجالس الإدارات وأعفى فيها عدداً من الصحفيين واستبدل رؤساء التحرير. فقمت بكتابة مقال طويل نشرته جريدة الصحافة يومي العشرين والثاني والعشرين من اكتوبر عام 1973م. تصديت فيه لآراء الدكتور ودافعت فيه عن الصحفيين وقد كنت أفعل ذلك بصفتي منتسباً لقبيلة الصحفيين. وقد كنت أشعر أن «غيبونة» بائنة قد مورست ضد الصحفيين دون وجه حق. أعود لتجربتي في مجلس إدارة الإعلاميات التي كانت تصدر جريدة الصحافة التي كان يرأس تحريرها الأستاذ كمال حسن بخيت. ففي اجتماع لمجلس إدارة الإعلاميات الذي كان يرأسه الأخ الأستاذ طه علي البشير تمت مناقشة أوضاع جريدة الصحافة في غياب الأستاذ كمال حسن بخيت الذي كان خارج البلاد واستقر الرأي على تحميل الأستاذ كمال مسؤولية ما آل إليه حال جريدة الصحافة وقرر مجلس الإدارة إعفاء الأستاذ كمال من رئاسة التحرير.. وكنت أنا أكثر المتحمسين لذلك القرار مع إنه ليست لي أية ضغائن أو أحقاد ضد الأستاذ كمال بل إن الأستاذ طه علي البشير كان من رأيه أن ننتظر عودة الأستاذ كمال لمواجهته ولكني كنت الأعلى صوتاً بالمناداة بإعفائه لأني كنت أعتقد أن خللاً كبير قد حدث في الأداء المهني الذي اكتنفته بعض الملابسات. إلى هذا الحد يمكن أن يُتخذ القرار بحق رئيس التحرير. ولكني ولأني كنت الأعلى صوتاً وتشدداً اكتشفت فيما بعدأنني قد أخطأت خطأ كبيراً في حق الأستاذ كمال وأن ذلك الخطأ لا يمحوه إلا أن أقوم بعمل يرد له اعتباره.. ولهذا عندما ذهب الأستاذ كمال رئيساً لتحرير «الرأي العام» ذهبت وعملت تحت رئاسته للتحرير كمتعاون ويعلم الله ما فعلت ذلك إلا لأني شعرت أنني حتى ولو ظلمته بنسبة واحد بالمائة في مقال كتبته ضده لم آبه به فإن تلك النسبة الواحد بالمائة قد تكون هي التي تهوي بالمرء سبعين خريفاً في نار جهنم. ولهذا عندما قال لي الأخ الأستاذ صلاح أحمد إدريس وقد كان معارضاً بشدة إقالة الأستاذ كمال: - أراك تكتب عن كمال الذي كنت من أكثر المتحمسين لإقالته. أجبته: لكي أرد له اعتباره. تجدنا أحياناً متحمسين لمبادئ مثل المهنية والعرف الصحفي وغيرها متناسين قول الشاعر المصري صلاح جاهين: بصيت للموج من قنطرة وقلت الصدق فين والكذب فين يا ترى محتار حأموت .. نطق الحوت وقال لي: هو يا مسكين الكلام بتقاس بمسطرة. ولذلك لا أريد لإخوتي في مجالس إدارات الصحف أن يسارعوا إلى الفعل «غير المستحب» فهناك متسع من الرحابة والسماحة وطيبة النفوس التي تجعل سريراً صغيراً يتسع لمئات الخلافات والخلاف لا يقاس بمسطرة. غفر الله لي ولكم. آخر الكلام: دل على وعيك البيئي.. لا تقطع شجرة ولا تقبل ولا تشتر ولا تهد هدية مصنوعة من جلد النمر أو التمساح أو الورل أو الأصلة أو سن الفيل وليكن شعارك الحياة لنا ولسوانا. ولكي تحافظ على تلك الحياة الغالية لا تتكلم في الموبايل وأنت تقود السيارة أوتعبر الشارع.