هناك شبه إجماع بأن الإنقاذ فى فترتها الأولى، كانت قد وثبت بالوطن والمواطن وثبات غير عادية، تصل إلى درجة الإعجاز، وهنا فإننا لا نتحدث عن الانجازات المادية، لأنها من قبيل الأعمال التى بالإمكان أن تنهض للقيام بها مختلف النظم، شيوعية كانت أو رأسمالية، وحتى الدكتاتوريات العسكرية فى تاريخنا المعاصر يُشهد لها بالكثير من المنجزات. ولكن الذى تفوقت فيه الإنقاذ وهى فى سنواتها الأولى أنها شحذت الهمم، وعمرت القلوب بالإيمان، واستنفرت طاقات الأمة بإعادة الروح إلى معاني الدين، وقيم العقيدة، ويومها لم يكن التجنيد فى صفوف القوات المسلحة، أو التطوع للدفاع عن الأرض والعرض يتمان بموجب إعلانات فى الصحف السيارة مقابل عروض مادية، أو حوافز ينالها الذى يتقدم، وإنما كانت الاستجابة لمثل هذه الواجبات تأتى بفعل إرادة غلابة ورغبة ذاتية. والوثبة التى قفزتها البلاد فى تلك الأيام تظل سمة مائزة يتذكرها حتى الأطفال برياضهم، والطلاب فى مرحلة الأساس، فكانت المعانى لذلك الزمن الجميل غناءً للتطريب، ونشيداً يفوح عطراً ومسكاً كما كانت دماءً للشهداء تخضب القلوب، قبل أن تخضب الأرض كمهرٍ للفداء، وثمناً للعزة، وموجبات الفداء. وأكاد أجزم بأن الإنقاذ فيما لو تحملت ابتلاءات الماضى، ورهق السنوات الأولى بالصمود والإصرار على مواصلة المسيرة بذات النفس وبذات المستوى، لكان حالها أفضل بألف مرة من الذى حدث. ولكن الأمر أصبح فيه اختلاف بين رأى ورأى، فرأى يقول بضرورة مد الجسور مع المعارضين، والتعامل مع المجتمع الدولي، والتنازل عن بعض المواقف على سبيل التكتيك، وذلك من أجل تطبيق نظرية استراحة المحارب، والعمل بمبدأ الدفع بالتى أحسن، وهذه الرؤية تمتاز ببعض جوانب الحكمة والعقلانية، غير أن مثل ذلك المنهج تعتوره مشكلات، أولها يتمثل فى داء الاسترخاء، وكراهية المشوار الذى يحيط به العناء، فتتحول استراحة المحارب إلى نومٍ دائم، ورخاوة قابلة للانكسار. أما الرأي الآخر، المختلف حوله، فكان متمسكاً ببقاء الإنقاذ كالطود الشامخ، تغالب الرياح فى كل الاتجاهات، تعمر بيد وتضرب باليد الأخرى، ولا يكون التنازل على حساب المبدأ، أو المصالحات من أجل إرضاء القبائل، والدوائر الأجنبية، أو تشجيع الجهويات والقبليات، والاعتراف بمراكز القوى الكامنة فى بعض البيوتات، وإعطاء الحوافز لمن أراد أن ينال المغنم والمنصب عن طريق رفع السلاح. وفيما لو أخضعنا الرأي الأول والثاني للدراسة المتأنية، وإجراءات الفحص الدقيق لمعرفة أيهما أكثر صحة، لوجدنا بأن الإنقاذ اعتماداً على تجاربها المديدة، وقدرتها المكتسبة على إجراء المقارنة، ومن ثم التوصل إلى وضعٍ آخر يمكنها من تحقيق وثبة ثانية لا تقل فى مقدارها عن الأولى، وهى تعلن بداية الجمهورية الثانية، لابدَّ لها أن تدمج بين الحالين ونتيجة التجربتين فى عملية حسابية لا ندعى بأنها بسيطة، ولا نزعم بأن الذين سيجرونها لن تعترضهم العقبات، أو تقابلهم المنحنيات. ولكن تلك الوثبة لا شك أنها أصبحت اليوم فى خانة الواجب، إذ لا إصلاح بلا مبادئ، ولا حكم بلا معيار، ولا تكليف دون كفاءة، ولا عزة دون ثبات، وليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة. وتلك هي محاور الوثبة الثانية ذلك إن أردناها جمهورية ثانية لتجعل الجميع يشيرون إليها بالبنان.