لقد كانت حالة الحب بين إسرائيل والحركة الشعبية في حياة زعيم الأخيرة الهالك جون قرنق بادية للعيان وإن حاولت الحركة إخفاءها على طريقة من قال في أغنية أبو عركي الجميلة: «بخاف يا إنت لو جيتك، ألملم في خطاوي الشوق وازور بيتك؛ يقولوا عليّ حبيتك» ورغم ذلك فكم لملم قرنق خطاوي الشوق وزار إسرائيل بالرغم من خوفه في ذلك الوقت من أن يذيع سر «الريدة» بين الحركة وإسرائيل ويحرجه أمام العرب الذين كان بعضهم في ذلك الوقت يدعمه بالسلاح والمال ضد حكومة السودان. ولكن دواعي إخفاء تلك العلاقة قد انتهت الآن فقد ظفرت الحركة بدولةٍ تنعم بالحماية المعلنة من أمريكا وأوربا وإسرائيل؛ نعم لقد آن للعلاقة التي ظلت بين السر والإنكار أن تخرج للعلن، وذهب سلفا كير رئيس دولة الجنوب خاطبًا ودّ إسرائيل وقد مهرها كامل أرض الجنوب، تقيم فيها إسرائيل ما تشاء من قواعد عسكرية، وتربض كما تشاء عند منابع النيل. القصد... إن العلاقة بين إسرائيل ودولة الجنوب تُعبِّر خير تعبير عن الانجذاب الحتمي بين الكيانات المتشابهة. إن حالة الجذب القوي بين الكيانين مردّه أوّل شيءٍ إلى الطبيعة العنصرية للدولتين إضافة للبداية الدموية لكليهما. إنّ ما أحدثه الإسرائيليون إبان تحركهم الأول من أجل فرض دولتهم على الأرض حين اجتاحوا القرى والضيعات الفلسطينية، فقتلوا الرجال والأطفال، وبقروا بطون الحوامل؛ لا يشابهه إلا مشهد التمرد الأول في توريت 1955 حين ذبح الجنوبيون التجار العرب وأسرهم ذبح الشياه، وبقروا بطون النساء وألقوا الرُّضَّع في الهواء وتلقوهم بأسنة الرماح.... إن العرب لم يكونوا حكومة في ذلك الوقت ليدّعي الجنوبيون إنهم ثاروا على ظلم العرب وتهميشهم، إنّ البلاد كانت حينها تحت الحكم البريطاني، ولكن الجنوبيين لم يثوروا ضد البريطانيين بل ذبحوا التجار العرب وأسرهم... إنه فعل لا محرك له سوى الحقد الأعمى والعنصرية البغيضة. ويتبع ذلك وجه شبه آخر في صفة من صفات إسرائيل الصارخة، وهي الصفاقة وقلة الحياء والعزة بالإثم، فالجنوب اعتبر تلك المجازر، مجازر التمرد الأول في توريت، عيدًَا قوميًا من أعياد الدولة الجنوبية، ياللغرابة!! إن الأعمال الشائنة تبقى مخجلة ومحرجة للدول التي لديها حياء من التاريخ وبعض ماء الوجه، ولكن الجنوب ودولته الوليدة احتفلوا بمجازر توريت ورقصوا فوق قبور أولئك المغدورين. أما الطبيعة العدائة للدولتين فيبدو أنها من توابع الحقد العنصري والطبع الدموي للكيانين، إنّ إسرائيل وبالرغم من توقيعها اتفاقًَا للسلام مع مصر ظلت تتخذ من سفارتها في القاهرة وكرًا للتجسس ومكانًا للتخطيط لضرب مصر سرًا وعلانية، إذ صدّرت لمصر البذور الفاسدة، وحاولت إدخال الآفات الزراعية غير المعروفة في مصر، وليس آخر اعتداءاتها قتلها الجنود المصريين عند الحدود مع مصر بُعَيد الثورة المصرية. وإن كان عداء إسرائيل مقسّم على محيطها العربي الذي تعتبره محيطًا معاديًا لها «بما فيه الدول الموقعة معها على اتفاقات سلام»؛ فإن دولة الجنوب قد قصرت عداءها «حتى الآن» على الدولة السودانية. مندفعة في عدائها إلى درجة التضحية بمصالحها ومصالح شعبها في سبيل الإضرار بمصالح السودان! وفي النهاية فإن محور جوبا تل أبيب الجديد سيبقى غصة في حلوق العرب، يذكرهم في كل حين بأنهم تخلوا عن السودان لخمسين عامًا تركوه فيها يقاتل وحيدًا، بل ودعم بعضُهم بكل غباء تمرد الجنوب بالمال والسلاح، فليشرب العرب من هذه الكأس التي ظنّوا لجهلهم وقصر نظرهم أنّ السودان وحده سيغصّ بها، أما السودان فإن مخرجه الوحيد هو الاستمساك بحبل الله المتين، والنقاء من كل الشبهات والشهوات. فإن ضرر إسرائيل والجنوب لن يصل إلينا إلّا إذا سمحنا له بسوء أعمالنا أن يصل. «وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم».