لم يعرف المجتمع السوداني عبر تاريخه ما يسمى بخلط الأمر السياسي مهما كان الخلاف بالعلاقات الاجتماعية، وفي الغالب لا يقبل العرف المعروف شرطاً بضرورة التماثل في الرؤى السياسية لتستقيم العلاقات الاجتماعية، ونحن نشاهد في المناسبات المختلفة اجتماع المتناقضات السياسية في دار واحدة وعلى كراسٍ متجاورة، عندما تدلهم مصيبة، أو يحدث فقد بوفاة طبيعية أو غيرها. ولقد حدثت في بلادنا انقلابات عسكرية منها الذي نجح، ومنها الذي أُحبط في مهده، وتم إثر تلك الانقلابات تنفيذ إعدامات للمتورطين، وذهاب أرواح خلال المواجهات المسلحة، ولكن لم نسمع برغم فداحة الذي شهدناه بأن توغل الحقد في نفوس أهل من أعدم، بدلالة أن عسكر نوفمبر بقيادة الفريق إبراهيم عبود لم يلحق بهم أذى بعد تنحيه عن السلطة بالرغم من إعدام من حاولوا الانقلاب عليه في فترة من الفترات، وظل المجتمع السوداني ينعم بعافيته المبرأة من الحقد والانتقام. أما نظام مايو بقيادة المشير جعفر نميري، فإنه شهد أحداثاً مأساوية قد يصعب إحصاؤها، تأتي في مقدمتها التصفيات التي حدثت في يوليو 1971 لكبار الضباط الشيوعيين وكذلك للمدنيين بنصب المشانق والإعدام رمياً بالرصاص، كما لا ننسى تلك الإعدامات التي نفذت بحق انقلابيين كان من ضمنهم حسن حسين والاحيمر في حركة 1975، كما يجب ألا ننسى تلك الحملات الجائرة ضد الأنصار في الجزيرة أبا وود نوباوي مما أدى إلى مقتل إمام الأنصار الإمام الهادي المهدي. ولكن برغم الدماء التي سالت في عهد مايو، والسجون التي ذاق ويلاتها الشرفاء، لم يهم أحد بعد سقوط نظام مايو، للانتقام من جعفر نميري أو من أعوانه الذين كانوا سبباً بفعل المواجهات في تلك الدماء التي أُريقت، بل كانت جنازة المشير نميري، شاهدة على تلك الجموع التي ودعته إلى مثواه الأخير بالنحيب والبكاء والترحم عليه. ومن أميز السمات التي يتفرد فيها الشعب الأبي بأنه لا يخلط بين السياسة وأعراف المجتمع، ولا يحوَّل الخلاف السياسي مهما احتدم، وحدثت فيه المواجهات، والاغتيالات إلى موجة للانتقام، وتسميم الأجواء، وإفساد ذات البين بين الأفراد والجماعات. والمرجعية في عدم الخلط بين السياسي والاجتماعي في عرف شعبنا، ترجع إلى ما نراه من تعايش في الأسرة الواحدة بين الأبناء والآباء والأجداد، بالرغم من اختلاف التوجهات السياسية وما تحمله أفكارهم من تناقض وتضاد. وتكفينا الإشارة للتاريخ الإسلامي الذي شهد خلافاً سياسياً راح ضحيته خلفاء للأمة منهم الصحابة ومنهم التابعين، غير أن كل ذلك الرصيد من الخلاف السياسي لم يؤثر اجتماعياً في أمة الإسلام، بل ظلت موحدة تضع نتائج ذلك الخلاف أمامها لتلقي العظات والعبر والدروس. ولا مجال لنا اليوم إلا أن نفصل ونميز بين خلافات السياسية، وما تطبَّع عليه مجتمعنا من قيم اجتماعية وأعراف.