الكتابة عن الفلسفة والفكر عموماً، صارت صعبة، وقليلة ونادرة، وهي في بلادنا والعالم العربي أندر، إن كثيراً من النظريات الفلسفية، تتعارض مع الأديان وتتضادّ معها لذلك عزف عن الكتابة في هذا المجال، حتى المتخصصون في ذلك.. أولاً لقلة الإقبال على مثل هذه الكتب وثانياً لأن التبسيط الشديد في كتابة الفلسفة قد يخل بها وقد يجعلها غير منطقية ومن الذين تصدوا للكتابة عن المناهج الفلسفية وتحليل خطاباتها، ثم مصالحتها مع الأديان وقد وفق في ذلك كثيراً، ووجدت كتبه إقبالاً ورواجاً كبيراً ومنها هذا الكتاب « تحليل العقل الديني» لمؤلفه الأستاذ متوكل علي محمدين، المولود في قرية «الجوير» محافظة المتمة والذي يحمل بكالوريوس من جامعة الخرطوم آداب، فلسفة وعلم نفس ومن كتبه المنشورة « تحليل الوعي» ومن كتبه المعدة للطبع كتاب «المقاييس المنطقية للأخلاق» وكتاب «فسلفة الحب» وكتاب تحليل العقل الديني، يلجأون إلى تبسيط الفلسفة دون أن تخل بمعانيها ولغتها المتعارف عليها، وهذا ما يحمد عليه لغة الأستاذ متوكل على محمدين، المفهومة وغير المعقدة، والتي يمكن أن تجعل من الفلسفة علماً مقبولاً ومستساغة من القارئ العادي وغير المتخصص ويلجأ في كتابه إلى السؤال والجواب، وهذا السؤال يفترض الكاتب أنه موجه إليه من هذا القارئ العادي الذي أشرنا إليه، وقد عرّف الكتاب الفلسفة بأنها العلم الذي لا تحدد وظيفته لأن التحديد يعتبر تغييراًَ لها، والتي يعتبرها مؤلف الكتاب هي أم العلوم، وقد عرفها القدماء قبل أن نفصل منها العلوم التجريبية والنظرية بأنها هي حب الحكمة والحكمة هنا تعني كل أنواع المعرفة الإنسانية، ورغم انفصال كل العلوم عن الفلسفة، إلا أن هناك علمين ما متصلين بالفلسفة، كما يرى الأستاذ متوكل محمدين، هما الأخلاق والسياسة، لذا يكون في رأيه التعريف الحديث للفلسفة وهو خاطئ في نظره أنها أي الفلسفة هي دراسة قضايا الأخلاق والسياسة، وفي رأي الكاتب أن هذا التعريف يحول الفلسفة إلى علم السياسة والأخلاق، ولن تعود فلسفة، وذلك لأن طبيعة الفلسفة لا تسمح لها بحصر وظيفتها في نطاق محصور ضيق، والنتيجة النهائية التي يتوصل إليها الأستاذ المؤلف «أن الفلسفة ليس لها تعريف وغير قابلة أيضاً للتعريف ويقول «حتى إذا حاولنا تعريفها أو وصفها في حدود، لابد أن تكون تلك الحدود أو ذلك التعريف شاملاً لا تحده حدود ضيقة» ويتساءل المؤلف إذن فما هو الحد الذي يمكن أن يكون شاملاً ويستوعب معنى كلمة فلسفة وبالتقنية الرائعة التي يستخدمها المؤلف في الشرح والتبسيط، غير المخل، يقول «الكلمة الشاملة التي يمكن أن نعرف بها الفلسفة هي كلمة اعتقاد، لأن كلمة اعتقاد هي كلمة شاملة تكاد تغطي كل أنواع المعرفة الإنسانية، فكلمة اعتقاد هي كلمة شاملة لا تحدها حدود ضيقة، فهناك الاعتقاد الديني، والاعتقاد السياسي، والاعتقاد في صحة قيم أخلاقية معينة، أو الاعتقاد بقيمة العلم وأهميته» ويحلل الكاتب ويفسر الفرق بين العلة الغائية والعلة السببية، شرحاً رائعاً لا يتعارض مع كل الأديان مما يجعل الكاتب فعلاً مؤهلاً لأن يُخضع الفلسفة لمنطق الدين والإيمان.. وهو يترك الباب مفتوحاً وحراً لمن يريد خلاف ذلك، ويذكر المؤلف أن أول من فكر في التفريق بين العلة الغائية والعلة السببية هو الفيلسوف اليوناني أرسطو، «فالعلة السببية تُرجع حدوث الأشياء في العالم إلى الأسباب التي أوجدتها، أما العلة الغائية، فإنها ترجع حدوث الأشياء إلى الغاية التي يهدف إليها الشيئان . مثال لذلك الفاس الغاية من وجودها هي قطع الأشجار وهي السبب في وجود الفاس.. فالعلم يستغل العلة السببية لتفسير حدوث الأشياء في العالم، أما الدين فإنه يستغل العلة الغائية لتفسير نسق الأحداث في العالم..» .. وقد أشار الكاتب إلى أن هناك علة أسطورية موجودة منذ القدم ومستمرة حتى الآن، لأن ليس كل علة سببية صحيحة، وذلك لأن العلة السببية في بدايتها قد تعرضت إلى بعض الاهتزازات، قبل آلاف السنين حينما كان الفعل يتحسس طريقه نحو المعرفة استغل الإنسان البدائي العلة السببية لتفسير نسق الأحداث في العالم، ولكنه ارتكب خطأ فادحاً لأنه كان حينما يعجز عن إدراك السبب الحقيقي لحدوث الظواهر الطبيعية كان يخترع سبباً أسطورياً ليعلل به حدوث هذه الظواهر ..» . والدليل الذي يورده الكتاب عن كونية العلة الأسطورية وقدمها أن قدماء الصينيين كانوا يعتقدون أن خسوف القمر يرجع إلى أن هناك تنيناً ضخماً يحاول ابتلاع القمر، لذلك فإنهم قد اعتادوا على ضرب الأواني المنزلية وإحداث ضوضاء عالية لترويع هذا التنين حتى يلفظ القمر ويفر هارباً.. لقد ترسخ هذا الاعتقاد وانتشر في كل بقاع الأرض حتى عندنا نحن في السودان انتشرت عادة الضرب على الأواني المنزلية عندما يخسف القمر...» والسبب الأسطوري هو الذي يفسر للكثيرين أسباب حدوث الظواهر الطبيعية خاصةً عند العامة منهم. والإنسان البدائي قديماً حينما عجز عن معرفة أو إدراك السبب الأساسي للكثير من الأمراض عزا حدوثها إلى العين أو السحر.. وكذلك عزا حدوث الأمراض النفسية والعقلية إلى الجن والشياطين.. ويخلص المؤلف إلى أن كلاً من العلة السببية والعلة الغائية لا يمكن أن يفسر القضايا التي تتعلق بعلم الملكوت وفكرة الكاتب في كل ذلك تبدو واضحة من قوله «إن أسلوب التفكير في أي مجتمع هو الواقع الأساسي لأي تقدم علمي وطور اجتماعي.. إذا كان الأسلوب السائد في مجتمع ما هو التفكير العلمي الذي يعزو حدوث الأشياء إلى الأسباب الأساسية التي أحدثتها وسوف يكون هناك ازدهار علمي وطور تكنولوجي، أما إذا كان الأسلوب السائد في هذا المجتمع هو أسلوب التفكير الغائي الذي يُرجع حدوث الأشياء إلى الغاية التي من أجلها حدثت الواقعة فسوف يتخلف هذا المجتمع، لأن التفكير الغائي سوف يمنع العقل من اكتساب المعارف الإنسانية..». لقد استطاع الأستاذ متوكل من هذا الكتاب أن يسوح في معارف وقضايا عميقة في الفلسفة والأخلاق والسياسة والدين، وهو بدون شك لم يقف عند رأي الآخرين فقط وإنما كانت له آراؤه وأفكاره، بحيث يضيف إلى المجتمع السوداني واحداً من المفكرين الذين يقولون رأيهم بشجاعة ودون خوف وقد استفاد كثيراً من دراسته للفلسفة وعلم النفس وهو كتاب يستحق القراءة وأن يكون مرجعاً في ما كُتب وبُحث فيه.