إن دورة تحريف الأديان عبر التاريخ الإنساني لها ثلاث مراحل، فالله عزّ وجلّ يبعث نبياً بشرعة ومنهاج والنبي يمضي في قومه مبيِّناً للدين المنزل والوحي ينزل يقوِّم الأخطاء ويرشد للطريق ويهدي أمة النبي إلى السبيل ثم يقضي الله عزَّ وجلَّ أن يقبض نبيه، ويترك النبي قومه على «الشرع المنزل» ويخلف من بعد حواريه خلف يحرِّفون الدين المنزل بتأويلات شائهة وتفسيرات منحرفة وتبقى الأمة على «الشرع المؤول» حيناً من الزمان ثم يعقبهم خلف طال عليهم الأمد فقست قلوبهم فيبدلون أحكام الدين ويستبدلون بأحكامه أحكاماً أخرى لا صلة لها بالأمر التليد تحت دعاوى المعاصرة والمصلحة لترتكس الأمة في ضلالة «الشرع المبدل» ثم يبعث الله نبياً آخر بشرع منزل يعيد الأمة إلى جادة الطريق، هذه الدورة هي التي كانت تعيشها الأديان «تنزيلاً ثم تأويلاً ثم تبديلاً» ونصوص الوحي تنزل بلسان القوم لتكون واضحة بيِّنة لا تحتاج إلى تأويل ولا تحريف «وما أرسلْنا مِنْ رَسُولٍ إلا بِلِسانِ قَوْمِهِ ليُبَيِّنَ لهم فَيَضِلُّ اللّهُ مَنْ يشاءُ ويَهْدي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ» وبعد هذا البيان النبوي باللسان نفسه يضلُّ اللّهُ من يشاء ويهدي من يشاء وإنما يضل مَنْ في قلبه زَيغٌ فلا يكتفي بالنصِّ ويذهب إلى تأويله والقرآن الكريم قد تناول الشرع المنزل في قوله تعالى « وإذا تُتْلَى عَلِيهِم آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الذَّينَ لا يَرجُون لقاءَنا ائتِ بقرآنٍ غَيْرَ هذا أو بدِّلْه قلْ ما يكونُ لي أنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلقاءِ نفسي إنْ اتبعْ إلا ما يُوْحَى إلَيّ إني أخافُ إنْ عَصِيتُ ربي عذابَ يومٍ عظيمٍ» وعن الشرع المؤول يقول ربنا عز وجل «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ» وعن الشرع المبدّل يقول القرآن الكريم « ولا تقولوا لما تصفُ ألسنِتكم الكذبَ هذا حلالٌ وهذا حرامٌ لتفتروا على اللّهِ الكذبَ إنَّ الذينَ يَفْتَرُون على اللهِ الكذبَ لا يُفْلِحُونَ» وهذه المراحل الثلاث ما من أمة من الأمم إلا مرت بها إلا أن أمة الإسلام من بعد التبديل تعود للشرع المنزل مرة أخرى وليس بعد نبينا محمد عليه الصلاة والسلام من نبي إذ هو خاتم الأنبياء والمرسلين والأمة التي ثارت اليوم وانتزعت الحكم الجبري في بعض البلدان وهي في طريقها إلى الشرع المنزل تمر بمرحلة يسيرة من الشرع المؤول، وبعبارة أخرى راجت في أجهزة الإعلام نقلا عن المشير البشير من («الدين المدغمس» لكنها حتماً ووعدًا صادقاً لا يكذب عائدة إلى الشرع المنزل كما كانت أول الأمر وخارجة من «الدين المدغمس» وفي الحديث الصحيح « ستكون فيكم الخلافة على منهاج النبوءة ثلاثون عاماً ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم يكون ملكاً عضوضاً ثم يرفعه الله إذا شاء أن يرفعه ثم يكون ملكاً جبرياً ثم يرفعه الله إذا شاء أن يرفعه ثم تكون خلافة على منهاج النبوءة» هذا الحديث ليس بيت شعر ولا حديث منجِّم بل هو حديث نبي مرسل لا ينطق عن الهوى ووعده لا يخلف!!، والأمة تعيد حيويتها من الداخل بعمل إحيائي يقوده بعض بنيها تجديدًا للدين وإحياء للسنة والأمة في طريقها إلى الشرع المنزل لا بد لها من هدم صنمين صنم «العلمانية الحليقة» المتمثلة في الشرع المبدل وقد هدمت بنايته وأتت على أركانه في بعض الأقطار وصنم «المقاصدية» المتمثلة في الشرع المؤول الذي جعل المصلحة هي مدار التشريع قيدًا على الأحكام الشرعية لا وصفاً لها وفرق بين الأمرين فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عندما قال «جاءت الشريعة لجلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها» كان يصف بذلك أحكام الشريعة ولا يقيدها وقد أخطأ خطأ فادحاً من فهم كلامه هذا كقيد على الأحكام الشرعية بل كان وصفاً لها وليس قيدًا عليها ولذلك يقول تلميذه ابن القيّم رحمه الله تعالى «كل ما أمرت به الشريعة فهو مصلحة وإن توهم الناس فيه مفسدة وكل ما نهت عنه الشريعة فهو مفسدة وإن توهم الناس أنه مصلحة» وبهذا الفهم العميق لكلام شيخه يتضح انحراف من ذهب إلى تقييد الشريعة بتحقيق المصلحة حتى قال سلف المقاصديين ابن نجيم الطوفي: « إن دليل المصلحة أقوى من الكتاب والسنة »!! وذهب بعض متعصبة المتمذهبين إلى القول بأن النص إذا خالف ما توهموه من مصلحة إما أن يؤول أو يهمل!! هذه «الدغمسة الفقهية» هي التي أدخلت الأمة قروناً من الزمان في حقبة من الشرع المؤول وهي التي صنعت أرضية ملائمة لتفريخ العلمانية في وعينا الفقهي والثقافي والسياسي والأمة ستستعيد عافيتها عودة إلى الشرع المنزل بعدول من بنيها يحيون المدرسة النصية ويعيدون تعظيم نصوص الكتاب والسنة وفي الحديث النبوي الشريف « يحمل هذا الدين من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» ودين بلا تحريف غال ولا انتحال مبطل ولا تأويل جاهل هو دين منزل يوم كانت شمس الإسلام تشرق أول مرة وبوادر فجر تلك الشمس قد اقترب!!.