نحرِّف المثل المعروف ونقول «الناس في شنو وديل في شنو» إن الوطن يعجُّ بقضايا حيوية ساخنة كثيرة ويمرُّ بتحديات ومعضلات يأخذ بعضها بخناق بعض اقتصادية وأمنية وهموم معيشية وأوضاع تقتضي مراجعات في مجالات عديدة وفوق ذلك فإن الوطن تحيط به مكايدات ومناوشات أجنبية وسهام مسمومة تريد أن تنتاشه من أطراف مختلفة وتسعى لإضعافه ليكون في حالة انعدام وزن، كسيراً قعيداً لئلا ينهض ويصبح بإمكاناته وثرواته المختزنة رقماً مرموقاً. وفي هذه الظروف المحيطة بالوطن تدور حرب باردة بين بعض قوى المعارضة التي تجمعت في ما أسمته تحالف أحزاب المعارضة وإن صراعاً صامتاً يدور بين اثنين أحدهما عهدت إليه رئاسة الجلسات عندما يلتئم شمل رؤساء تلك الأحزاب ومندوبيها وهو عضو لجنة مركزية سابق بالحزب الشيوعي ولا ينتمي تنظيمياً لأي حزب حالياً أي أنه بلا ظهر تنظيمي يستند عليه وتبعاً لذلك فهو رئيس أو بالأحرى مدير اجتماعات وليس رئيساً لرؤساء تلك الأحزاب، وقد ارتضى بعضهم على مضض هذه الرئاسة لأنها تخرجهم من حرج بالغ لأن أي واحد من رؤساء تلك الأحزاب لا يمكن أن يرضى بأن يكون مرؤوساً في الاجتماعات تحت رئاسة رئيس حزب آخر وبين هؤلاء الأنداد منافسات تاريخية متجذرة وغيرة سياسية والدليل على ذلك أن رئيس حزب الأمة القومي عندما خرج في «تهتدون» عزّ عليه أن يكون في الخارج عضواً في التجمع المعارض أو نائباً للرئيس ويكون مرؤوساً تحت زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي كان رئيساً للتجمع وظل حتى عودته وتركه للتجمع ينادي هناك بإعادة هيكلة التجمع وتجاوزاً للحرج البروتكولي بينه وبين نديده ولا أقول غريمه أصبحت الصفة الرسمية الملحقة باسمه هناك هي رئيس الوزراء المنتخب والآن إذا تمت إعادة هيكلة التحالف المعارض الذي أدار له الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل ظهره وفارقه نهائياً فإن رئيس حزب الأمة القومي هو أقوى المرشحين للرئاسة أي أنه سيصبح زعيماً للمعارضة الشعبية «لا البرلمانية» وليس مجرد رئيس جلسات، وشهدت الساحة السياسية مؤخراً ملاسنات حادة بين رئيس حزب الأمة والأمين العام للمؤتمر الشعبي الذي يضع إسقاط النظام بشتى السُبل والوسائل هدفاً لا يحيد عنه، أما رئيس حزب الأمة فقد أعلن أنه ضد المجابهات العسكرية وضد أي انتفاضة ينظمها التحالف، ولذلك تبادلا الاتهامات إن لم أقل الشتائم وجاء في الأنباء أنهما تصالحا بمبادرة من هالة رئيسة «حق» التي جمعتهما وتعهدا أن يوقفا الملاسنات والشتائم بينهما!! ويلاحظ كل المراقبين أن السيد رئيس الجمهورية ورئيس حزب المؤتمر الوطني هو الذي يبدي مرونة في تعامله مع رئيس حزب الأمة، وظل يسعى جاهداً لمد الجسور معه وإن بعض النافذين في النظام بينهم وبين رئيس حزب الأمة عدم استلطاف وفتور في العلاقات يعود لربع قرن من الزمان منذ إعلان نتائج انتخابات الجمعية التأسيسية وعقد اجتماعها الأول وما صحبه من تهكم وسخريات صغيرة. وفي كل الأحوال فإن صناعة القرار لا تخضع لأهواء الموافقين أو الرافضين ولكنها تخضع لشورى ومجلس قيادي وأجهزة وتنظيم والسقف الأعلى المقرر منحه للقادمين هو موقع مساعد رئيس جمهورية، وطوال عهد الإنقاذ لم يقدم أي عرض آخر أعلى من ذلك لأي شخص خارج نطاق التنظيم الحاكم وما يصدر من تصريحات بخصوص ابتداع ومنح منصب رئيس الوزراء هو محض تخرُّصات وتصريحات لا يُعتد بها تصدر من بعض غير النافذين للربت على الأكتاف ليس إلا. وسعى بعض النافذين لاستقطاب أكبر عدد من قيادات الحزب على المستويات كافة ولذلك صرح رئيس الحزب في منتصف تسعينيات القرن الماضي ساخراً بأنهم يريدون أخذ الجمل وترك الجمال أي صاحب الجمل. وعندما أدركوا بأن قبول رئيس الحزب لموقع مساعد رئيس الجمهورية يعتبر من المستحيلات آثروا تعيين ابنه بدلاً عنه بدعوى أن اختياره لم يتم على أساس حزبي بل تم على أساس أنه عسكري منتمي للمؤسسة القومية حامية الحمى. وقبل أشهر تم تجميع ثلاثة من فصائل الحزب المنشقة في حزب واحد ووصفهم رئيس الحزب الأصل بسخرية بأن جمعهم هو تجميع للأصفار، أما التيّار العام فإن قلة إمكاناته المالية وفقره جعله يصحو يوماً ويقطُّ في نوم عميق شهراً وفي هذه الظروف أدرك السياسي البراغماتي ابن عم رئيس الحزب أنه لن يحقق أي هدف إذا ظل متمترساً في فصيله الذي تشظى لعدة فصائل وآثر أن يعود طائعاً مختاراً وبلا شروط للوعاء الحزبي الأكبر الأمة القومي وأشهد الجميع على هذه العودة وبالتالي أصبح عضواً أصيلاً في حزبه الذي عاد إليه مستعملاً في البداية سياسة تمسكن حتى تتمكن!! والخطوة التالية بالنسبة له هي العمل ضد سياسة المهادنة وإعلان الانخراط بوضوح في تجمع كاودا وتجمع القوى الثورية الذي يضم الحركات المسلحة والتحالف مع حكومة الجنوب والتعاون مع أي قوى خارجية تناهض النظام وهو قادر على المساهمة في جمع الدعم.. أي أن المفاصلة في الزعامة مع رئيس جلسات التحالف أو الملاسنات مع زعيم المؤتمر الشعبي ستغدو كهديل الحمام بالمقارنة مع الصداع أو بالأحرى التسونامي الذي سيحدثه البلدوزر العائد داخل حزبه الجديد القديم وسوف يريهم النجوم في عز الظهيرة!!. وفي الديمقراطية الثانية انتظم اليسار في تجمع واحد وأعلن الأستاذ عبد الخالق محجوب أن السيد بابكر عوض الله سيكون هو مرشح تجمُّع التنظيمات اليسارية في انتخابات رئاسة الجمهورية بعد إجازة الدستور. وفي الجمعية التأسيسية الثانية تم ترشيح أربعة نواب يمثلون أحزاباً مختلفة لرئاسة الوزراء في عام 1968م وفاز السيد محمد أحمد محجوب برئاسة الحكومة وأضحى الأستاذ أحمد إبراهيم دريج زعيماً للمعارضة وأصبح الشيخ صادق عبد الله عبد الماجد زعيماً ثانياً للمعارضة ممثلاً لهيئته البرلمانية التي انتخبته والمكونة من أربعة نواب وصار الأستاذ عبد الخالق محجوب زعيماً ثالثاً للمعارضة منتخباً من هيئته البرلمانية المكونة من نائبين فقط هو أحدهما والآخر هو الأستاذ الحاج عبد الرحمن، وهذا يعني أنه كان هناك فرز للألوان الفكرية والاتجاهات السياسية، أما في التعددية الحزبية الثالثة فقد اختلط الحابل بالنابل وحدث تجمُّع للأضداد «سمك، لبن، تمر هندي» وركّاب سرجين وقيِّع ومسّاك دربين ضهيِّب، ولذلك سقط النظام ولو تريّث الجميع في ذلك الوقت وكان أفقهم واسعاً وحدث تحالف يتم الاتفاق بموجبه على تكوين حكومة وحدة وطنية مكونة من أحزاب الجبهة الوطنية الثلاثة، ويشارك كل حزب بقدر ثقله النيابي مع انصراف الجميع بعد ذلك للعمل والإنتاج والتنمية وتكون القوى السياسية الأخرى في المعارضة لاستقامت الأمور وتغيُّر مجرى الأحداث والتاريخ. وها نحن الآن نشهد عودة نفس الخلطة القديمة العجيبة «سمك، لبن، تمر هندي» في المعارضة وسيدرك بعضهم بعد حين إذا تباعدت بينهم الخطى واشتدت الخلافات لتباين المنطلقات والوسائل أن رمضاء المشاركة في الحكومة خير من نار المعارضة بوضعها الراهن. وإن الشعب لن يقف متفرجاً مكتوف الأيادي ولن ينساق المواطنون لغيرهم صمُّ عميُ بكمُ ولن يديرهم هؤلاء أو أولئك بالإشارة. وندرك أن النظام الحاكم يمكن أن يضع اعتباراً للمتمردين وحملة السلاح ويسعى للتفاوض معهم ويمكن أن يسعى لمد الجسور مع القوى الأجنبية المعارضة تجنباً لشرورها ولكنه لا يضع وزناً يذكر لقوى المعارضة التي تعتمد على التصريحات «وطق الحنك» ولكن هناك ما هو أخطر من هؤلاء جميعاً وعليه ألا يستهين بما يدور في الشارع ووسط الجماهير العريضة «جمل الشيل وحمالة التقيلة» التي ظلت تتحمل فوق طاقتها وهي لا تتطلع لسلطة أو جاه ولن تصارع من أجل الأجندات الخاصة للآخرين ولكنها فقط تتطلع للعيش الحر الكريم ولو في حد الكفاف والعفاف. وهناك ثمة ملاحظات تعتبر مؤشرات وهي مجرد نماذج عابرة قد يعتبرها بعض ذوي الياقات البيضاء أمثلة ساذجة من سفاسف الأمور وصغائرها، وعلى سبيل المثال فإن أسعار القصب مثلاً قد ارتفعت ارتفاعاً جنونياً هذا العام ونحن لا زلنا في موسم «الدرت» أو بعده بقليل وهذا يعني بأن معاناة أصحاب المواشي ستكون كبيرة في فترة «الرشاش» قبيل الخريف وتبعاً لذلك سترتفع أسعار الغلال ارتفاعاً جنونياً لسد النقص في تغذية المواشي ويحدث ارتفاع في أسعار الألبان واللحوم أيضاً أي أن القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني سيشهد وضعاً يحتاج منذ الآن لمعالجات إسعافية. ومن الواضح أن الميزانية للعام المالي الذي بدأ الآن ربما تشهد فروقات في الأرقام بين التقديرات في الإيرادات والمنصرفات وبين الواقع الفعلي مع توقع أي طوارئ تستدعيها الأوضاع الأمنية والدفاعية مما يضطر لإعادة جدولة وبرمجة في الميزانية المعجزة أصلاً وهذا يقتضي حزماً في إدارة الاقتصاد ويتطلب تقشفاً وإيقافاً للصرف البذخي والارتباط بالجماهير وقضاياها وإن الشعب إذا تململ فإنه لا يعير اهتماماً لتحالف معارضة ولا يحزنون بل إن تحركه سيكون تلقائياً إذا تفجّر غضبه فجأة وهذا بكل أسف إذا حدث لا قدر الله سيؤدي لفوضى ومصير مجهول، وعلى النظام الحاكم أن يأخذ الأمور مأخذ الجد ويتصالح مع الشعب ويتفاعل مع قضاياه الآن أكثر من أي وقتٍ مضى.