حملت الأنباء في عدد من الصحف في الأيام القليلة الماضية أن عدداً من أعضاء الحركة الإسلامية يعتزمون إعداد ورفع مذكرة إصلاحية لرئاسة الدولة مع عرضها في الاجتماع القادم لمجلس شورى الحركة الإسلامية ومن ثم تقدَّم للمؤتمر العام القادم في شهر أغسطس القادم إن شاء الله. وقد نشرت صحيفة «الإنتباهة» الغراء في عددها الصادر يوم الجمعة الموافق 13 يناير الجاري نص هذه المذكرة التصحيحية المنسوبة للحركة الإسلامية. وإن السودان ملك لكل السودانيين بكل انتماءاتهم وأمره لا يهم طرفاً واحداً دون الآخرين ولا يخص تنظيماً واحداً دون التنظيمات الأخرى. ولا ندرى هل المذكرة المُشار إليها هي شأن تنظيمي خاص وقاصر على العضوية فقط أم هو شأن عام يهم كل السودانيين، والمعروف أن كل أعضاء الحركة الإسلامية باستثناء حالات نادرة هم أعضاء بحزب المؤتمر الوطني ولكن عدداً كبيراً من المنتمين للمؤتمر الوطني لا ينتمون عضوياً للحركة الإسلامية بل إن هذا الحزب الذي استقطب أعداداً كبيرة من الذين كانوا ينتمون لأحزاب وتنظيمات أخرى كان يضم في أحشائه عدداً من المسيحيين بمختلف طوائفهم لاسيما قبل الانفصال واعتلى فيه بعضهم مواقع قيادية وكان أحدهم حتى وقت قريب نائباً للأمين العام للحزب الحاكم. لقد حُلت الحركة الإسلامية كتنظيم في وقتٍ باكر من عمر الإنقاذ وهذا لا يعنى بالضرورة تخلى الأعضاء عن أطروحات ومبادئ الحركة ومرتكزاتها الفكرية وقد انخرطوا جلهم إن لم أقل كلهم في المسيرة عبر مختلف الأُطر والقنوات، وفي المراحل الأولى عمل الكثيرون منهم بإخلاص وتفانٍ وبهمة عالية في مختلف المجالات وقدم بعضُهم مهجَهم وأرواحَهم أو بعض أطرافهم فداءً للعقيدة والوطن ومن هؤلاء الصادقين من لا يزالون يعملون بذات الهمة دون أن ينتظروا مكسباً أو مغنماً وعلى النقيض منهم ضمت المسيرة الانتهازيين والوصوليين والفاسدين. والشعب السوداني العظيم يميز بحصافة بين التبر والتراب وهو يسمع ويرى ما يجري أمامه من نعيم وترف وبذخ مبالغ فيه وتطاول في شاهق البنايات والعمارات وفاره العربات والعيش كالأمراء والملوك والأباطرة في ظل تغييب وعدم تفعيل لقانون من أين لك هذا؟ وبالطبع إن من حق كل إنسان أن يعيش في المستوى الذي يريده ومن حقه أن يصرف كما يشاء من ماله الخاص الحلال الذي جمعه بكد يمينه وعرق جبينه إذا كان مزارعاً أو تاجراً أو رجل أعمال أو مغتربًا أو صاحب مكتب استشاري... إلخ ولكن لا يعقل أن يتأتى كل هذا لإنسان محدود الدخل مهما ارتفع مرتبُه وتضخَّمت امتيازاتُه حتى ولو وازت راتب وامتيازات السكرتير العام للأمم المتحدة أضعافاً مضاعفة، وتبعاً لذلك فإن هؤلاء ليس لهم فضل على الشعب السوداني وليس لهم في عنقه سالفة أو دين ولم يكونوا رساليين بل إنهم أخذوا حقوقهم على دائر المليم كأي مقاولين أو صنايعية بل إنهم أخذوا أضعافاً مضاعفة فوق حقوقهم. وقد قرأنا قبل ذلك مذكرة العشرة التي فوجئ بها الأمين العام وكافة أعضاء هيئة الشورى ودار حولها حوار ساخن وكانت تتحدث عن المؤسسة وبالطبع لا يمكن أن يجرؤ أحد ويقول أنا ضد الشورى والمؤسسية ونجح مُعدو المذكرة في تمريرها وإجازتها ومن بين أسباب نجاحهم تكتمهم عليها ولو علم بها الأمين العام قبل ساعات فقط لأبطل مفعولها بما كان يمتلكه من سطوة وسيطرة وقبضة فولاذية في تلك الأيام. أما موقف الثلاثة الكبار في البلد من تلك المذكرة فقد انحنى الترابي عرّاب الإنقاذ للعاصفة وأعلن قبوله لها ووجه الدعوة لكافة الأعضاء لحضور مأدبة العشاء التي أقامها على شرف حضور الأستاذ أحمد عثمان المكي رحمه الله وحاول الانتقام من العشرة في المؤتمر العام واستمر الشد والجذب بينه وبين تلاميذه وأفضت الصراعات الشرسة بينهم لقرارات الرابع من رمضان، أما البشير فقد كان في قمة حماسه في ذلك اليوم وهو يرتدي الزي العسكري وأخرج هواءً ساخناً من صدره وما زالت خطبه التي أعقبت تلك الليلة محفورة في الذاكرة. أما علي عثمان فقد كان في ليلة مذكرة العشرة في القصر الجمهوري ومعه مجموعة من المادحين والمنشدين يستمع في هدوء ونشوة للمدائح والإنشاد الديني وبشهادة أحد شباب الإعلاميين كان الشريف أحمد عمر بدر يوافيه بين الفينة والأخرى ويحضر من القاعة المنعقدة فيها اجتماعات مجلس الشورى لينتشي هو الآخر بالمدائح والإنشاد الديني.. وما جرى في تلك الأيام سيظل صفحات مفتوحة. وإن الأوراق التي صُوِّرت وسرِّبت ووزِّعت عشوائياً بعد صلاة الجمعة في أحد الأيام في فناء مسجد الجامعة كشفت أسراراً غريبة عجيبة وهي أن عراب الإنقاذ «الذي قدم الرئيس ليؤدي القسم في المجلس الوطني عام 1996م باستخفاف قائلاً أقدم لكم العضو الذي يجلس على يميني» كان يرسل قصاصات لبعض خاصته يطلب فيها أن يوافيه كل منهم برأيه في مسألة عاجلة أو يجيب باقتضاب عن سؤال يوجه إليه في قضية معينة والغريب أن الرئيس البشير كان من بين أولئك الذين تُرسل إليهم تلك القصاصات ولذلك كانت مذكرة العشرة تمثل انقلاباً حقيقياً على الأوضاع التي كانت مقلوبة... والآن وبعد هذه السنوات الطويلة فإن المذكرة الجديدة تطالب بالمؤسسية والشورى فهل غرقت توصيات مذكرة العشرة وما أعقبها من قرارات في نهر النيل كما غرقت هتافات مستقبلي الميرغني في كسلا في نهر القاش حينما زارها وفي معيته مرشح حزبه للرئاسة!! لقد قرأنا ما ورد في المذكرة الأخيرة عن الفساد ولنا أن نتساءل لماذا صمت مُعِدو المذكرة كل هذه السنوات ولم يتحركوا إلا بعد أن تم الاعتراف رسمياً بالفساد وتكوين آلية لمحاربته تتبع للقصر الجمهوري.. ولماذا لم يتحركوا إلا بعد أن بلغ السيل الزبى وقامت الصحف بدور فعّال في تسليط الأضواء الكاشفة عليه وقام عددٌ كبير من الشيوخ الأجلاء من أئمة المساجد الأفاضل بدق ناقوس الخطر وتنبيه الغافلين ولماذا لم يتحركوا إلا بعد أن أصبح الفساد هو حديث المجالس في كل أنحاء السودان وفي كل الأحوال فأن تحضر أخيراً خيرٌ من ألاّ تحضر. وإذا اقتصر دورهم على إعادة ما ظل يردده الشارع يصبحون مجرد مرددين مكررين لم يأتوا بجديد وعليهم أن يكونوا في حالة عصف ذهني لتقديم حلول تفصيلية عملية.. وينسحب هذا على نقاط كثيرة وردت بالمذكرة.. وثمة سؤال لماذا لم ينشر كاتبوها أسماءهم ولماذا يُبنى فاعلها أو كاتبها أو كاتبوها إذا كانوا جماعة للمجهول ونحن نحمل المذكرة على المحمل الحسن ونرجِّح أن تكون دوافع كاتبيها سليمة وليست لهم أجندات خفية وألا يكون الغبن الشخصي دافعاً لبعضهم أو تكون الطموحات الذاتية دافعاً لآخرين منهم.. وقد نادوا بمحاربة الفساد وهذا شيء يُشكرون عليه ونرجو أن يكونوا قدوة لغيرهم ويبدأوا بأنفسهم بإعلان أسمائهم مع نشر كل منهم لممتلكاته وطريقة حصوله عليها وإذا فعلوا ذلك فإنهم يجعلون الطريق لتطبيق قانون من أين لك هذا سالكاً أما إذا رفضوا تبرئة ذممهم قبل مطالبة الآخرين بذلك فينطبق عليهم المثل القائل «عدالة القُصص أم قُصة عوجاء».