اطّلعت على نص المذكرة التي سُمِّيت بالمذكرة التصحيحية المنسوبة إلى الحركة الإسلامية والتي نشرتها «الإنتباهة» الجمعة الماضية والتي جاء فيها أنها تهدف إلى تصحيح مسار الحركة الإسلامية. وبغض النظر عمّن يقف وراء هذه المذكرة أو الجهة التي أصدرتها، وبغض النظر عن كونها صادرة عن الحركة الإسلامية أو أنها «مدسوسة» كما وصفها البعض من قيادات المؤتمر الوطني، فإن ما يهم فيها في رأيي الخاص ليست هويتها أو هوية من ألقوا بها في غيابت الجب ليلتقطها بعض السيارة، وإنما الأهم من كل ذلك مضمونها وفحواها. ردود الأفعال حيال هذه المذكرة حتى الآن تمحورت عن السؤال عن مصدرها وليس النقاش حول مضمونها وهذه كارثة في حد ذاتها، والذين ركزوا اهتمامهم حول معرفة مصدرها يريدون أن يحكموا عليها بحكم يأتي تبعاً لهُوية المصدر فيضعون عليها ديباجة حكمهم وبالتالي لن ينظرون إليها إلا من خلال هذا الحكم المسبق. في رأيي أن ما جاء في متون وحواشي المذكرة هو المسكوت عنه والذي يستحق الوقوف عنده والتأمل فيه «جملة جملة سطر سطر وكلمة كلمة»، فقد وضعت كثير من فقرات المذكرة يدها على مواضع الداء والعلل في تجربة الحكم التي خاضتها الحركة الإسلامية في السودان منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي والمتمثلة في «الإنقاذ». في تقديري أن المذكرة جاءت متوازنة ودقيقة في عباراتها وشخّصت المرض الذي تعاني منه التجربة وأوردت كل الإيجابيات والمكاسب التي حققتها «الإنقاذ»، وفي نفس الوقت لم تغفل عن تبيان السلبيات والإخفاقات التي صاحبت مسيرتها طوال سنوات حكمها. ولم تكتفِ المذكرة بتشخيص الداء وذكر الإيجابيات والسلبيات فقط، وإنما ذهبت إلى أبعد من ذلك فقدمت وصفة علاجية لهذا الداء والذي تمثل في برنامج واضح المعالم ومحدَّد بعدد من النقاط الأساسية، قالت المذكرة إن تنفيذه يتم عبر حزب المؤتمر الوطني باعتباره الحزب الحاكم. ونقول بكل صدق إن ما جاء في هذه المذكرة هو بحق وحقيقة ما تحتاج إليه التجربة، وإن كل ما ذكرته المذكرة تحت باب السلبيات والإخفاقات هو واقع معيش وملموس ولا ينكره إلا من ينكر ضوء الشمس في رابعة النهار أو من في قلبه مرض. ومن يقول بعدم الحاجة إلى التصحيح وأن كل شيء على ما يرام فهو إما جاهل وإما أنه ينحدر من قبيلة النعام يدس رأسه في الرمال، ولا يريد سماع النصح أو رؤية الواقع علي حقيقته. قد يختلف الناس في درجته ومقداره، ولكنهم لن يختلفوا حول حقيقة الانحراف الذي حدث لمسار تجربة الحركة الإسلامية في الحكم وهي تجربة معاصرة عايشها الناس وكانوا وما يزالون عليها شهوداً فالإنقاذ خلطت عملاً صالحاً وآخر سيئاً وكسبت يداها الحسنات والسيئات، مما يستوجب وقفة تصحيحية لهذا الانحراف وإعادة «ضبط» البوصلة نحو الاتجاه الصحيح. أعلم أن البعض لديه حساسية شديدة تجاه لفظة «تصحيح» هذه ويجعلونها ترادف معنى التغيير الشامل الذي قد يلامس حد «الانقلاب» وآخرون يرون في التصحيح وكأنه ثورة تهب رياحها لتعصف بالقديم وتأتي بآخر جديد، وهناك من يضيق أفقه أكثر من ذلك فيرى في التصحيح «مساس» بمكاسبه ومصالحه الشخصية فيرتعد لذلك ويصيبه الجزع فيسارع إلى رفضه جملة وتفصيلاً وطرحه أرضاً ليخلو له وجه مصالحه ومكتسباته الخاصة. وأعلم كذلك أن البعض مصاب بفوبيا المذكرات، فهم يخشون مآلات ونتائج مذكرة العشرة الشهيرة التي شطرت جسم الحركة الإسلامية إلى شطرين متناحرين. هذا معلوم ومقدر ولكن لابد من الفكاك من إسار وربقة هذه الفوبيا والتخلص منها قبل فوات الأوان. ولشد ما حز في نفسي سخرية د. محمد مندور المهدي نائب رئيس المؤتمر الوطني بولاية الخرطوم من المذكرة ووصفه لها بأنها «محض شائعات وأمانٍ تصدر عن بعض الناس» وقوله إن المؤتمر الوطني «لا يحمى الطار». وهو قول يشي بأن الرجل في وادٍ آخر بعيد أو هو يحاول سد قرص الشمس بكفه. إن مثل هذه الأقوال من شأنها أن تباعد الشقة بين القاعدة «الحركة الإسلامية» والقيادة «المؤتمر الوطني» وحينما تتسع هذه الشقة وتزداد يحدث ما لا يمكن تفاديه، فتنفصل القيادة وتخرج عن مدارها «قاعدتها» ومن ثم تسبح في الفضاء الطلق ويكون السقوط هو النتيجة الحتمية بعد ذلك. إن قراءة «ما بين» سطور المذكرة قراءة متأنية ومجردة من الأحكام المسبقة ومبرّأة من الشك في مصدرها لا بد وأن تصل بصاحبها إلى نتيجة واحدة مهمة مفادها أن ما ورد بالمذكرة لا يمكن أن يصدر إلا عمّن يريد الإصلاح صدقاً لا قولاً مجرداً وينبغي ألا يفسَّر سكوت المذكرة عن الإفصاح عن نسبها بأنها «مدسوسة» لشق الصف وهدم ما هو قائم، بل إن المنطق يقول إن تحديد هُوية المذكرة بجسم محدَّد أو أشخاص بعينهم سواء كانوا عشرة أو مائة أو ألف سيؤدي لا محالة إلى انشقاق آخر، لأنه في هذه الحالة ينصرف الاهتمام صوب أصحاب المذكرة فيدور البحث حول خلفياتهم المختلفة ومواقفهم السابقة وينقب في دوافعهم من إصدارها دون النظر إلى مضمونها وجوهرها ومن ثم تبدأ تلقائياً عمليات إصدار الأحكام واتخاذ المواقف والتمترس خلفها فينجم صراع مكتوم ولكن تتصاعد أدخنته لتسد الأفق في وجه الحلول والوفاق ومن ثم يقع الشقاق. على المؤتمر الوطني ألا ينبذ المذكرة وراء ظهره، بل يجب عليه أن يأخذ بأحسنها وينتفع بها ففيها ما هو مفيد وفيها ما يحتاج إليه، والمذكرة في تقديري قابلة للتطوير والتقويم والتجريح بالحذف والإضافة وأقل ما يمكن وصفها به هو أنها نصيحة، والدين النصيحة. عن أبي تميم ابن أوس الداري رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال «الدين النصيحة ثلاثاً، قلنا لمن يا رسول الله، قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم » رواه مسلم.