أذكر أني منذ سنوات نصحت الصديق العزيز أسامة عبد الله أن يسعى بسرعة وأريحية لكي يحل قضية المناصير من قبل أن تتفاقم، وكان إذ ذاك يعمل بسد مروي، من قبل أن يغدو وزيرًا وإن كنت أظن أن الوزارة لا تزيد أسامة شيئًا لا أبهة ولا عظمة فهو قد نال ذلك كله وأكثر من دون منصب وفي ثنايا العمر الغض. وأذكر أني قلت له يومها إن الحل ينبغي ألا يكون إداريًا ولا قانونيًا ولا اقتصاديًا وإنما نبويًا، بمعنى أن تتجاوزوا كل البروقراطية الحرفية من أجل المصلحة العليا لبلاد الله السودان وعباد الله المناصير. وقد قلت يومها بينا كنت أصب الجمر على رأس أحد رؤوس الفتنة الأستاذ الدكتور عبد الوهاب الأفندي الذي استعجل فناء الحركة الإسلامية وعمل على المتاجرة بقضية المناصير: إن الإنجاز الهائل المتمثل في سد مروي الذي قام على إنشائه أبناء الحركة الإسلامية الأبطال الأماجد، وغيرهم من العلماء، والمهندسين، والموظفين، والعمال الوطنيين الغيورين، لا يرى فيه هذا الذي يستعجل قراءة الفاتحة على الحركة الإسلامية شيئاً ذا بال. لكن إذا قامت على هامشه مظاهرة احتجاج، كما تقوم على هامش أي عمل تنموي ضخم مظاهر احتجاج، فتح صاحبنا عين السخط بأقصى سعتها، ورأى ما يحب أن يرى من المظاهر السلبية، وأَعملَ قلمه في الكتابة عنها، وتضخيم خطرها، وأجهد نفسه في التربص، والتفكّر، والتدبّر، علّه يجد صيداً صغيراً في الماء العكر. وصديقنا الكريم أسامة القائم على هذا المشروع العظيم، نقول له إنه جدير بك أن تلاحظ وتتحسس تربص الخصوم بهذا المشروع الضخم وغيره، وجدير بك أن تتفادى بحكمتك التي عرفناها فيك قديماً، كل ما يبلبل مشاعر بعض الناس وخواطرهم، وهذه فرصة ننتهزها كي نقول له ولرفاقه من قادة العمل الحكومي أن يكونوا أكثر كرماً مع مواطنينا الكرام، وذلك حتى لا تثور عليهم زوابع وزعازع، تصبح مادة لأقلام أصحاب الريب. وإنها لمناسبة ندعو فيها قادة الإنقاذ جميعا كي يعيدوا مراراً وتكراراً قراءة سيرة سيدنا ابن هشام، ليتذكروا كيف كان رسول الله يعطي لمن يستحق ومن لا يستحق، هبة من لا يخشى عادية الفقر. قال ابن هشام: ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، من رد سبايا حنين إلى أهلها، ركب واتبعه الناس، يقولون: يا رسول الله، أقسم علينا فيئنا من الإبل والغنم، حتى ألجأوه إلى شجرة، فاختطفت عنه رداءه، فقال: أدوا عليَّ ردائي أيها الناس، فوالله أنْ لو كان لكم بعدد شجر تِهامة نَعماً لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً! وهذا ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبني الدولة الإسلامية الأولى. فإن أعجب أحدهم بمعدن أو أرض نَعم بذلها له مستحقًا كان أو غير مستحق. فقد وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لشخص من الذهب ما ناء به حمله. وعندما سأله أحدهم مسألة عادية أعطاه غنمًا ملء الودي فلم يصدق الرجل وأسرع بها خشية أن يرجع الرسول في هديته الضخمة وهيهات! وعندما بلغ الرجل مأمنه دعا قومه أن يلحقوا بمحمد قائلاً: يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر! واهتداء بهذا أدعو حكومتنا إن كان بها رشد أن تسرع في حل مسألة المناصير وأن تفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي لا تخشى عادية الفقر. فبهذا الأسلوب النبوي، الكريم، لا بالأسلوب التقليدي الحقاني البيروقراطي الرسمي، تؤلَّف قلوب الخلق، وتُجتث منازع الثورة والتمرد والعصيان من مكامنها، ويُجتذب الأنصار والأعوان المخلصون. وحديثًَا اطلعت ب «اإنتباهة» على مقال بل دراسة قيمة لأستاذنا فضيلة الدكتور حسن عثمان رزق عرفت منها كم حاق بالمناصير من ظلم على وقع أي عمل تنموي اجتاز بلادهم. فهم بالتالي أحق بالتعويض ليس فقط على ما اجترح بحقهم من ظلم الآن بل عبر تاريخ السودان الحديث. وهذه نقطة على غاية الأهمية نرجو أن يتدبرها الحكماء أولو الألباب فيسرعوا في إمضاء الحل وتنفيذه حسبما تطالب وثيقة المناصير أو بأكثر مما فيها. وأظن أن السادة المناصير قد قبلوا بما انتهت إليه لجنة الأستاذ المجاهد كمال الدين إبراهيم وكان كل ما طالبوا به بعد ذلك أن يتعهد المركز بالتنفيذ. فليتعهد المركز إذن بالتنفيذ.