ما بين أول آية نزلت من القرآن الكريم وآخر آية منه كانت الفترة الزمنية ثلاثة وعشرين عاماً في تلك الفترة قامت أول دولة في العالم بمعناها الحقيقي، حيث لم تشهد جزيرة العرب دولة قبل ذلك!! وما بين البيان الأول في الثلاثين من يونيو 98 ومذكرة الألف أخ مضت أيضاً ثلاثة وعشرون عاماً حدث فيها انهيار لمشروع الدولة الذي كان واردًا، بعد أن كان وارداً أن يزدهر ولكن.. بعد الثلاثة وعشرين عاماً التي اكتمل فيها نزول القرآن الكريم كان السند الشعبي لهذه الدولة أقوى ما يكون ومضت على ذلك قرابة الألف وخمسمائة عام وكل مسلم يذكر تفصيلاً ما حدث في ذلك الزمن، حتى أصبح سيرة يعتمدون عليها في حياتهم اليومية، وحجة يحتجون بها في قضاياهم السياسية اليومية وكان ذلك التاريخ مفخرة كل مسلم على الأرض!! تلكم كانت حقاً لله فهي التي أخرجت العالم من عبادة العباد إلى عبادة الواحد القهار.. قبل ثلاثة وعشرين عاماً والسودان تتنازعه القوى العالمية الطامعة فيه، بادر الإسلاميون وسبقوا غيرهم واستولوا على الحكم، ظن الكثيرون أو قل الأغلبية الغالبة منهم أنه الفتح المبين وأنه البداية لنظام إسلامي لطالما حمله الكثيرون منهم أشواقاً سرعان ما تبخّرت مع مرور الزمن!! حملوا معهم الأشواق، وتركوا المنهج والقيم التي عليها نشأ الإسلام وتبلور ما بين اقرأ واليوم أتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً.. الرجال وقتها قادتهم القيم والمنهج أما أشواقهم فكانت قد تجاوزت الدنيا وما فيها والتي وصفها الإمام علي عليه رضوان الله بأنها لا تساوي في نظره عفطة عنز «والعفطة هي الريح الكريهة الذي يخرج من الإنسان والحيوان على السواء»، هكذا كانت الدنيا في نظر أولئك القوم!! أولئك صدقوا ما عاهدوا الله عليه وما بدلوا تبديلاً، أما في حالتنا فقد أعلنوها هي لله وبدلوا تبديلا. أولئك الرجال كانوا يهتمون بكل ما هو دقيق ولا نأبه له الآن، فها هو الفاروق عمر عليه رضوان الله يسير في شوارع المدينة يقابل سيدة تحمل حِملاً ثقيلاً، يسألها عن أمرها ويعلم أنها ذات عيال وليس لها من يساعدها فيحمل عنها ما كانت تحمل، ويقول لها عندما وصل إلى بيتها «إذا أصبح الصباح، اقصدي عمر يرتب لك خادماً» قالت «إن عمر شغله كثير، وأين أجده؟ قال «اغدي عليه وستجدينه إن شاء الله.. وتعمل المرأة بنصيحة الرجل الطيب، وما إن تراه وتقف بين يديه حتى تصبح مبهورة» أهو أنت إذن؟ ضحك أمير المؤمنين وأمر لها بخادم ونفقة.. ليس من مطالب هذا الشعب أن يعامله عمر كما كان يفعل الفاروق عمر، بل مطلب الشعب أن يجد حياة كريمة وعملاً شريفاً وعلاجاً وتعليماً يوفر له المقدرة على العمل المنتج الذي يعود عليه وعلى أهله وبلده بالخير والحياة الكريمة.. الفاروق عمر عليه رضوان الله كان يبحث عن شكاوى وقضايا المسلمين والمواطنين عامة مسلمين كانوا أم كانوا غير ذلك، والآن لا نجد من يبحث عن شكاوانا ولا نجد من نشكو إليه، فلا أحد يستمع لنا، فكل شكاوانا مؤجلة ليومئذ للعدل الواحد الأحد في ذلك اليوم وفي كل يوم منذ أن خلق السموات والأرض.. كلما أسمع أحدهم يتباهى بإنشاء الطرق والجسور والسدود ازداد سخرية من ذلك التباهي، فكلما يتباهون به هو بنيات أساسية للتنمية فالطريق ليس تنمية في حد ذاته،إنما هو بنية تقوم عليها التنمية، فالطريق موجود والتنمية معدومة لا وجود لها، وكم يصيبني من الألم حين أرى الشاحنات تتوجه إلى ميناء السودان وهي فارغة من صادرات السودان. الكهرباء التي انتجناها ما أثرها في الزراعة والصناعة؟ لا يستطيع أحد أن يقول إنها رفعت من الإنتاج الصناعي أو الزراعي مثقال ذرة، فالاستخدام الوحيد هو الاستخدام غير المنتج في المنازل والمكاتب أين التنمية التي قامت على ذلك الإنتاج الكهربي غير المشهود كما يصورونه؟! لقد تم هدم الطبقة الوسطى التي تقوم عليها التنمية، فأصبح المجتمع يضم نقيضين غالبية عظمى من الفقراء وأقلية لا تذكر من الأغنياء يحكمون بالسياسة ويتحكمون في الاقتصاد وأرزاق الناس التي كتبها الله لهم. حين يقال للفاروق عمر عليه رضوان الله «اتق الله» كان يفقد وعيه رعبًا من ذلك وحين يفيق يبحث عمن قال له ويستجديه ماذا فعل له حتى يكفِّر عن ذنبه نحوه، والآن إياك أن تتفوه بهذه العبارة ليس لرئيس أو وزير أو والٍ أو معتمد، احذر أن توجهها حتى لأبسط موظف في الدرجة الثامنة عشرة فسوف تلقى من سوء عذاب الدنيا ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت..