· مع أبنائه الخمسة عشر ، ظل الحاج محمد احمد يعيشُ حياةً «مستورة».. أما جيرانُهُ الفُقراء من الجهات الأربع ، فقد كانُوا يرونها حياةً «رغيدة».. محمد احمد كان مزارعاً بسيطاً ، يزرعُ – و أبناؤهُ – أرضاً رحيبةً ، فتعطيهم بسخاءِ نفوسهم ، و من ريع حصاده كان محمد احمد يأتي بالدقيق ، و من أنعامه كان يوفر الإدام لحماً ولبناً .. و حول «قدحٍ» كبيرٍ كان يتحلق محمد احمد و زوجُهُ ، وأبناؤه الخمسة عشر ، ثلاث مرات في اليوم ، فيشبعون ثُم يفيضُ طعامُهم على جيرانهم الفقراء .. · ولكن .. انشقت الأرضُ ذات صباحٍ عن «شيطانٍ» يتغنَّى باقتسام السلطة والثروة.. وآذان أبناء الحاج محمد احمد التقطت مقاطع الأغنية ، فاجتمعُوا في اليوم التالي وقرروا مكاشفة أبيهم بما حاك في نفوسهم من ضجر .. ضجرٍ بالقدح الواحد الذي لا يتغير ، وضجرٍ بالزراعة و عنائها .. و ضجرٍ ب(الحُكم المركزي) القابض.. قال كبيرهم أن الأولَى ، حتى لا يفجأُوا أباهُم ، أن يعرضُوا مطالبهم «بالتقسيط المريح».. فقرَّ الرأي منهُم على أن يطلبوا من أبيهم ، أول الأمر ، أن يُعفيهم من ضجر القدح اليومي الواحد.. ألا تُريدون أن تأكُلوا؟؟ نُريدُ يا أبانا ، ولكن غير هذا الطعام «المُكرر».. نُريدُ «تغييراً.. نُريدُ أن يأكُلَ كلٌّ منا ما يشتهي.. ولكن أمكم لا تقدر على أن تطهُوَ خمسة عشر صنفاً من الطعام كل وجبةٍ !! إذاً ، قسِّم بيننا مال الطعام ، وأرح أُمنا من عناء الطهو !!.. و تطهون طعامكم بأنفسكم؟؟.. لا .. سنأكُلُ «ساندوتشات».. · الحاج محمد احمد حذَّر أبناءهُ من جرائر قرارٍ كهذا ، وحاول ردَّهُم عنهُ ، ولكنهُم كانُوا قد حزمُوا أمرهُم ، و اختفى القدح من بيت محمد احمد .. و اقتسم الأبناءُ من مال أبيهم ما كان مخصصاً للطعام ، و افتقد الجيران ما كان يفيضُ عليهم من قدح جارهم محمد احمد ، فتغيرت نفوسهم تجاههُ ، و حلَّ العِداءُ فيها محل المحبة .. و أنفق الأبناءُ ، في ما تشتهي أنفسهم ، مؤونة الشهر في أسبوع ، و عانَوُا الجُوع بعد ذلك ، فطلبُوا مزيد مالٍ ، ولكن أباهُم أخبرهُم بأن مال الطعام قد نفد ، وما بقي من مالٍ هُو مالُ الكساء و الوقود ، والبذور للزراعة ومالُ إصلاح الأرض وريها . . طلبُوا مال الزراعة ، قائلين أنهُم لا يُريدُون أن يزرعُوا بعد اليوم .. و من أين تأكُلون إذاً ؟؟ سنمتهن التجارة ، يا أبانا .. والأرض .. لمن نتركُها .. أترُكها بُوراً .. فالأرضُ لا تُحقِّقُ طموحاتنا !! ·اقتسم الأبناءُ مال إصلاح الأرض ، وتنازعُوهُ في ما بينهُم ، و أتلفُوهُ في «السندوتشات» شهراً ، ثم عادُوا إلى أبيهم يطلبون مال الكساء ، ومال الوقود ، ثم باعُوا أرضهم .. ثم تنازعُوا على ثمنها .. ثُم قامت الحربُ بينهُم .. · ثم راحُوا ، وقد أنهكهُم الجوع ، يتسوَّلُون جيرانهُم ، الذين كان يفيضُ عليهم طعام محمد احمد و أبناؤهُ زماناً ، فطردهُم الجيران الفقراء .. الحاج محمد احمد ظلَّ وحدهُ يتفرجُ على ما آلَ إليه حالُ أبنائه ، غضبانَ أَسِفاً .. · هذا ، ولم تنتهِ الحكاية بعد .. ولا أحد يسمعُ صوت الرجُل الحكيم ، الحاج محمد احمد ، الذي لا يفهمُ كثيراً في «السياسة» ولكنهُ كُلَّما لقي مسؤولاً بحكومة السودان ، حكى لهُ حكايته وحكاية أبنائه الخمسة عشر ، وحكاية جيرانه الذين تحوَّلُوا إلى أعداء .. · الحاج محمد احمد قال لي ، باكياً ، أن حُكومة السودان تُكرِّرُ أخطاءهُ بحذافيرها !! كيف ذلك ، يا حاج ؟ كان السودان يأكُلُ من قدحٍ واحد ، قبل بدعة «الحُكم المحلي».. والآن ، يا حاج محمد!! إصبر عليَّ .. وكان يُطعِمُ جيرانَهُ – الذين كان ينهشهم الجوع – كلهم !! أها .. و ما اكتسب عداوة جيرانه إلا بعد أن انقطع عنهُم طعامُهُ ، ثم راح يتسولهم!!.. ثُم ... السودان كلهُ يعيش على «السندوتشات» الهزيلة ، والتي لا تكفي ، والتي يتنازعُها أبناؤهُ ، فيظفرُ بعضُهُم بما يزيد عن حاجته ، ويظفرُ آخرون بالكفاف ، وتبيت الأغلبية على الطوى .. لا أفهم ، يا مولانا !! إن أحياك الله وأحياناً إلى غدٍ ، تفهمُ إن شاء الله ، ولكن أخشَى ألاَّ يفهم من بيدهم إعادة السودان إلى «قدحِهِ» السخي !!!...