دعا الكاتب الدكتور عبداللطيف البوني الإسلاميين في مقالة له بعنوان «المذكرة التي لم تكتب» إلى التحلي بشجاعة لتقييم تجربتهم في الحكم وذكر أن الأمر يحتاج إلى مذكرة من نوع آخر إذ يقول «يبدو لي أنه بعد أكثر من عقدين من الزمان من تجربة الإسلاميين في الحكم في السودان أو الحاكمين باسم الإسلام أن الوضع محتاج لمذكرة من نوع آخر أو بالأحرى لدراسة عميقة لسبر غور هذه التجربة ثم بعد ذلك الحكم لها أو عليها فحقيقة الدراسة المطلوبة يجب أن تدور في علاقة الدين بالدولة أو علاقة الدين الإسلامي بالسياسة من خلال هذه التجربة السودانية والنظر إلى أي مدى نجحت أو فشلت وهل أفادت البلاد والعباد أم أضرت بالدين والبلد معاً» إلى أن قال «ومن هنا كان لابد للمؤيدين لوصل الدين بالدولة أن يتحلوا بالشجاعة ومن داخل المكون الديني أن يقدموا الحلول» وعن هذه المطالبة وما ذكره البوني أكتب مقالة اليوم في نقاط مختصرة: أولا ً: عند إجراء تقييم ما لتجربة إسلاميين في الحكم، لا بد من استحضار أن هذا التقييم له جزءان لأن الخلط بين هذين الجزئين هو الذي يوقع المؤيدين للمشروع الإسلامي للحكم والمعارضين له في خطل عظيم، جزء يتعلق بالدين وهو نصوص الوحي المقدس وجزء يتعلق باجتهاد البشر في تنزيل الدين إلى أرض الواقع. ثانياً: الذين يخلطون بين نصوص الدين ومحاولة البشر تنزيلها في الواقع إما أن يضفوا على البشر قدسية النصوص وإما أن يضفوا على النصوص بشرية الأشخاص الذين حاولوا تنزيلها، فالأولون يقعون في تبعية مقيتة لا يفرقون فيها بين المبدأ المقدس ومكانة الأشخاص حتى يصبح زعماؤهم وقادتهم بمنزلة الرسول عليه الصلاة والسلام فوق النقد وفوق التخطئة!!، وهذا الفريق من الناس هو الذي أدخل الأمة في عصور من «الشرع المؤول» وأصبحت مرئيات الرواة ورواياتهم عن الرسول عليه الصلاة والسلام بمنزلة واحدة، والصحيح أن نأخذ بما روى الراوي لا ما رآه، فالرواية الحديثية شيء ومرئية الراوي لها شيء آخر. ثالثاً: والفريق الثاني نظر في تجربة الحاكمين بما فهموه من الدين والذين اجتهدوا في تنزيله في الواقع، فلما وقف على أخطاء عظيمة لهم سحب التخطئة هذه من «التدين» إلى «الدين» نفسه وهناك فرق بين الدين والتدين، فالدين هو نصوص الوحي المقدس والتدين هو محاولة البشر المؤمنين بالدين في تنزيله على أرض الواقع والانحراف في التدين ليس انحرافاً في الدين وإنما هو انحراف في فهم الدين وتطبيقه، والذين خلطوا هذا الخلط رفضوا علاقة الدين بالدولة كردة فعل لهذا الخلط والتشوه الفكري فأدخلوا الأمة في حقبة مظلمة من «الشرع المبدل». رابعاً: من المهم جدًا أن نتفق على معايير هذا التقييم إذا أردنا أن نجعل التقييم لصلة الدين بالسياسة لأن تقييماً على هذا النحو يتجاوز تقييم الأفراد وتطبيقهم للدين إلى تقييم العلاقة نفسها بين الدين والدولة، وهذا ما دعا إليه الدكتور عبداللطيف البوني إلا أن هذا التقييم من منطلق إسلامي ليس من حق البشر أصلاً، لأن هذه العلاقة بين الدين والدولة لم تكن قراراً بشرياً حتى نبحث صوابيته من خطئه أو استقامته من انحرافه، وإنما البشر لهم الحق في تقييم تجربة بشر مثلهم واجتهادهم في تطبيق الدين وفهمه ومن يطالب بتقييم العلاقة بين الدين والدولة من منطلق فشل تجربة البشر في تطبيقه أو أخطائهم في تنزيل بعض أحكامه كمن يطالب بتقييم الصلاة بسبب نقر الناس لها وتقييم الصوم بسبب رفث الناس فيه وتقييم القرآن بسبب لحن الناس في قراءته، فالحكم بما أنزل الله شعيرة من شعائر الإسلام وركن من أركانه مثله مثل الصلاة بل أشد وفي الحديث الشريف «تنقض عرى الإسلام عروة عروة كلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها أولهن الحكم وآخرهن الصلاة» والنبي عليه الصلاة والسلام يجعل هنا الحكم من عرى الإسلام وإذا قضى الله أن يكون الدين حاكماً لحياة الناس في معاشهم واقتصادهم وسياستهم وقضائهم فليس لمؤمن أن يعقب على ذلك أو أن يعطي نفسه حق التعقيب والقرآن يقول « والله يحكم لا معقب لحكمه» ويقول الله عز وجل «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم» ولكن من حق البشر أن يعقبوا وينقضوا بل ويثوروا ضد تجارب بشر يرونها خاطئة وظالمة ومنحرفة، لكن هذا الحق يجب أن لا يتعدى مقامه، فيصبح نقضاً للدين نفسه، ويجب التفريق بين تقييم المصلين وتقييم الصلاة وتقييم الصائمين وتقييم الصيام وتقييم الشريعة وتقييم الذين يعملون على الحكم بها، ما إذا التزموا بذلك أو انحرفوا عنه. خامساً: لقد قارب الدكتور البوني أن يصيب هذه الحقيقة التي ذكرتها في المسألة الرابعة لكنه خلط خلطاً عظيماً وأرجو أن يكون ذلك منه خطأ في الصياغة إذ يقول « فقد اتضح أن الذي يحكم ليس هو الدين إنما بشر باسم الدين فطالما أن طبيعتهم البشرية هي التي تغلبت عليهم وطمرت الأيدلوجية التي كانوا يرفعونها فإن هذا يعني أنه لابد من إعادة فهمنا للدين وعلاقته بالسياسة» لقد أصاب الدكتور عبداللطيف البوني وهو يسعى لتنزيه الدين عن اجتهادات البشر الخاطئة لأن تلك محاولاتهم في تنزيل الدين تحسب لهم أو عليهم بحسب الإصابة والخطأ لكن الدكتور وقع في الخطأ الذي وقع فيه الفريق الثاني المذكور في النقطة الثالثة إذ قال: «إن هذا يعني أنه لابد من إعادة فهمنا للدين وعلاقته بالسياسة» فأقول إن الأخطاء التي وقعت هنا أوهناك لا تعطينا الحق للنظر في علاقة الدين بالسياسة ولكن في علاقة المخطئين هؤلاء بالدين وانحرافهم عنه في بعض ما أخطأوا فيه لأن إعادة النظر في علاقة الدين بالسياسة انطلاقاً من بعض الأخطاء في تطبيق الدين هو«حالة نفسية» وليس «حالة موضوعية» وإن كان هذا جائزًا فإنه بالمثل يدعونا إلى إعادة النظر بين الديمقراطية والسياسة نظرًا للأخطاء الفادحة التي وقع فيها الديمقراطيون من تحويلهم الديمقراطية الشعبية إلى ديمقراطية المال وعلاقة الرأسمالية بالسياسة نظراً للأخطاء الكارثية التي وقع فيها الرأسماليون بتكريسهم الثروة في أيدي قلةٍ والبقية فائض بشري يجب التخلُّص منه!!، وإعادة النظر بين علاقة العلمانية بالسياسة نظرًا للأخطاء التي وقع فيها العلمانيون من تنكرهم للدين بما أخل بالأمن الاجتماعي وعزز التطرف!! ، وأخبرني بربك مَن مِن أصحاب الأيدلوجيات والنظريات السياسية لم يقع في أخطاء فادحة وهو يسعى لتنزيل أيدلوجيته في أرض الواقع، فهل نعيد النظر في كل ذلك وعلاقته بالسياسة أم هذا أمر مقصور على خطأ الإسلاميين في تنزيل بعض أحكام الدين ؟!