كتب الدكتور عبد اللطيف البوني عدة مقالات خطيرة حول مذكرة الإسلاميين وكذلك كتب عن فقه الثورات فقال في أحد تلك المقالات ما يلي: «الثورة عندما تنضج ظروفها لن تستأذن أحدًا وستفرض نفسها ومن المحتوم أن تفرض وضعاً غير الذي كان سائداً قبلها فثورات الربيع العربي أفرزت نظمًا يقودها الإسلاميون لأنهم كانوا ضحية النظم التي قامت ضدها الثورة في ذات الوقت هم الذين قادوا الثورة أما إذا قامت ثورة شعبية في السودان فإنها سوف تطيح بالإسلاميين الحاكمين ولن تقدِّم أي شخص يرفع أي مبدأ إسلامي كجند من أجندته السياسية»!! البوني لم يكتفِ بتلك الأماني في تحليله لفقه الثورة وإنما أضاف في مقال آخر أنه بعد تجربة أكثر من عقدين من الزمان من حكم الإسلاميين نحتاج إلى دراسة عميقة لسبر غور تلك التجربة و(يجب أن تدور الدراسة حول علاقة الدين بالدولة أو علاقة الدين الإسلامي بالسياسة). أعجبني الرد الرائع الذي سطّره د. محمد علي الجزولي على الجزء الثاني من حديث البوني وأقتطع هذه الإفادات من ذلك الرد المُفحم: (ذلك أن علاقة الدين بالدولة لم تكن قراراً بشرياً حتى نبحث عن صوابه من خطئه أو استقامته من انحرافه وإنما البشر لهم الحق في تجربة بشر مثلهم ومن يطالب بتقييم العلاقة بين الدين والدولة من منطلق فشل تجربة البشر في تطبيقه أو أخطائهم في تنزيل بعض أحكامه كمن يطالب بتقييم الصلاة بسبب نقد الناس لها وتقييم الصوم بسبب رفث الناس فيه وتقييم القرآن بسبب لحن الناس في قراءاته فالحكم بما أنزل الله شعيرة من شعائر الإسلام وركن من أركانه مثله مثل الصلاة بل أشد وفي الحديث الشريف «تُنقض عُرى الإسلام عُروة عُروة كلما انتقضت عُروة تشبث الناس بالتي تليها أولهنَّ الحكم وآخرهنّ الصلاة» والنبي عليه الصلاة والسلام يجعل هنا الحكم من عُرى الإسلام، وإذا قضى الله أن يكون الدين حاكمًا لحياة الناس في معاشهم واقتصادهم وسياستهم وقضائهم فليس لمؤمن أن يعقِّب على ذلك أو أن يُعطي نفسه حق التعقيب، والقرآن يقول: «والله يحكم لا معقِّب لحكمه» ويقول الله عز وجل «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم» ولكن من حق البشر أن يعقِّبوا وينقضوا بل ويثوروا ضد تجارب بشر يرونها خاطئة وظالمة ومنحرفة، لكن هذا الحق يجب ألّا يتعدى مقامه، فيصبح نقضاً للدين نفسه، ويجب التفريق بين تقييم المصلين وتقييم الصلاة وتقييم الصائمين وتقييم الصيام وتقييم الشريعة وتقييم الذين يعملون على الحكم بها، ما إذا التزموا بذلك أو انحرفوا عنه. خامساً: لقد قارب الدكتور البوني أن يصيب هذه الحقيقة التي ذكرتها في المسألة الرابعة لكنه خلط خلطاً عظيماً وأرجو أن يكون ذلك منه خطأ في الصياغة إذ يقول «فقد اتضح أن الذي يحكم ليس هو الدين إنما بشر باسم الدين فطالما أن طبيعتهم البشرية هي التي تغلّبت عليهم وطمرت الآيدلوجية التي كانوا يرفعونها فإن هذا يعني أنه لا بد من إعادة فهمنا للدين وعلاقته بالسياسة» لقد أصاب الدكتور عبد اللطيف البوني وهو يسعى لتنزيه الدين عن اجتهادات البشر الخاطئة لأن تلك محاولاتهم في تنزيل الدين تُحسب لهم أو عليهم بحسب الإصابة والخطأ لكن الدكتور وقع في الخطأ الذي وقع فيه الفريق الثاني المذكور في النقطة الثالثة إذ قال: «إن هذا يعني أنه لابد من إعادة فهمنا للدين وعلاقته بالسياسة» فأقول إن الأخطاء التي وقعت هنا أو هناك لا تعطينا الحق للنظر في علاقة الدين بالسياسة ولكن في علاقة المخطئين هؤلاء بالدين وانحرافهم عنه في بعض ما أخطأوا فيه لأن بعض الأخطاء في تطبيق الدين هي «حالة نفسية» وليس «حالة موضوعية» وإن كان هذا جائزًا فإنه بالمثل يدعونا إلى إعادة النظر بين الديمقراطية والسياسة نظراً للأخطاء الفادحة التي وقع فيها الديمقراطيون من تحويلهم الديمقراطية الشعبية إلى ديمقراطية المال وعلاقة الرأسمالية بالسياسة نظراً للأخطاء الكارثية التي وقع فيها الرأسماليون بتكريسهم الثروة في أيدي قلة والبقية فائض بشري يجب التخلص منه!!، وإعادة النظر بين علاقة العلمانية بالسياسة نظراً للأخطاء التي وقع فيها العلمانيون من تنكرهم للدين بما أخل بالأمن الاجتماعي وعزّز التطرف!!، وأخبرني بربك مَن مِن أصحاب الأيدلوجيات والنظريات السياسية لم يقع في أخطاء فادحة وهو يسعى لتنزيل أيدلوجيته في أرض الواقع، فهل نعيد النظر في كل ذلك وعلاقته بالسياسة أم هذا أمر مقصور على خطأ الإسلاميين في تنزيل بعض أحكام الدين؟!). انتهى حديث د. محمد علي الجزولي أقول للدكتور البوني إن فشل التجربة التي يقوم عليها المؤتمر الوطني اليوم لن تقدح في الإسلام وشريعته إلا إذا قدحت أخطاء البشر في تطبيق شعائر الإسلام وشعائره في الدين الإسلامي وزهّدت الناس في الصلاة أو الحج بسبب التقصير في أداء هاتين الشعيرتين مثلاً فالإسلام دين رباني والمقارنة بينه وبين النظريات البشرية الأخرى كالمقارنة بين الله فارض الإسلام على الناس وبين البشر الذين ابتكروا تلك النظريات الأرضية ولذلك تجده كلما انهارت له حضارة في أحد بلاده ينهض في آخر ثم يعود إلى البلاد التي انهارت إحدى تجارب تطبيقه فيها فعندما تسقط الماركسية التي هي من صنع البشر في الاتحاد السوفيتي تسقط إلى الأبد ولا تعود أما الإسلام فإن سقطت تجربة تنزيله في مصر فإنها تعود ولو بعد حين وكذلك إن سقطت في تركيا فإنها تعود من جديد كما يحدث الآن في الدولتين فتجارب ونظريات البشر هلكى كالبشر الذين ابتكروها أما الإسلام فخالد إلى يوم القيامة لأنه من صنع الله الباقي رب البشر. بالنسبة للسودان فإن ذهاب الجنوب يعتبر ثورة ربيع عربي عزّزت من الهُوية الإسلامية وسيعزِّز ذلك من تجربة الحكم الإسلامي حتى إن سقطت الإنقاذ والأيام بيننا.