ذكرت في الحلقة الأولى خمس نقاط مختصرة في التعليق على مطالبة دكتور البوني للإسلاميين بمراجعة وتقييم علاقة الدين بالدولة، وقلت إن العلاقة بين الدين والدولة لم تكن قراراً بشرياً حتى تتم مراجعته، بل هو فريضة شرعية وركن من أركان الإسلام، وذكرت أن المراجعة والتقييم والتخطئة والتصويب والتعديل والمحاسبة إنما تكون في صلتنا نحن بوصفنا أفراد وحركات وجماعات تتبنى الدعوة إلى الحكم بالإسلام، أن نعيد قراءة ومراجعة صلتنا بهذه الدعوة التي نرفع من خلال النظر إلى تطبيقاتنا العملية في إطار الحكم والسياسة ومواصلة للدردشة الفكرية هذه على شكل نقاط مختصرة تصلح كل نقطة منها أن تكون موضوعاً لحوار فكري عميق وعنواناً لكتاب منفصل اقول: سادساً: إن الثيوغراطية التي عانت منها أوربا بالتحالف المشؤوم بين الإمبراطور والقسيس، وأحدثت ظلماً مريعاً باسم الدين للرعية، وأضفت شرعية على جميع جرائم الإمبراطور باعتبارها أفعالاً شرعية وواجبات دينية، تعتبر مخالفها كافراً، وهذا الوضع هو الذي أوجد ردة فعل نفسية ضد الحكم بالدين، إلا أن الفكر السياسي الإسلامي لا يمكن أن ينتج دولة ثيوغراطية، ذلك لأن الإسلام لا يعرف الحكم باسم الله على نحو ما كان يقع من القسيس، إذ كان يزعم ملاقاة المسيح في النوم، وهو أخبره بحل هذا الفعل أو ذاك، والإسلام يعرف الحكم بما أنزل الله وليس باسم الله، وما أنزله الله وحي دونته الأمة، إما قرآن أو سنة، والذي يزعم نسبة أمر ما للدين لا بد أن يقيم عليه برهاناً وحجةً شرعيةً. سابعاً: العلمانية في الغرب كانت ردة فعل لانحراف كبير لحق بعلاقة الدين بالدولة، إلا أن ردة الفعل تلك بدلاً من أن تكون موضوعية فتعمل على تقويم تلك العلاقة ورد المنحرفين بها إلى صوابهم، قامت بالدعوة إلى إلغاء العلاقة نفسها، والمطالبة بفصل الدين عن الدولة. وقد ظل المسلمون يحكمون بالإسلام ثلاثة عشر قرناً لم ينكر أحد منهم هذه العلاقة حتى اُبتليت الأمة بالأتاتوركية التي فصلت الدين عن الدولة وأسقطت دولة الأمة لتقيم دولة الشعب. لقد كان الحكم بالإسلام هو مصدر قوانين الأمة وتشريعاتها اجتهاداً في فهم الدين يصيب حيناً ويخطئ حيناً، لأنه جهد بشرى غير معصوم، لكن وقوع الخطأ لم يكن معتمداً عند عقلاء الأمة وقتذاك الأمر الذي يجعلهم يطالبون بسلخ الأمة سياسياً عن دينها وهويتها. ثامناً: من الأخطاء العظيمة أن يتم تقييم الحكم الإسلامي بحجم ما حققه من رفاه أو وقع في زمانه من ضنك، ذلك لأن قانون الرفاه والضنك في سنن الله الكونية له قواعد مختلفة، فربما تطبق الأمة الدين ومع ذلك تبتلى بشيء من الضنك والنقص في الأموال والأنفس، وقد أصاب قبيلتي مضر وربيعة في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجاعة وقحط، ليس لسوء الإدارة وانحراف الحكم، ولكنه قدر الله الذى يبتلي به المؤمنين، فاستنفر الرسول عليه الصلاة والسلام الأمة للصدقة على القبيلتين، حتى رفع الله عنهم البلاء بأيدي المؤمنين بعد توفيق الله تعالى، ولم يخل كتاب تاريخ إسلامي أو غربي من الحديث عن عدل عمر واستقامته، حتى أصبح ملهماً للثورة الفرنسية وهى تورد في خطاب اشتعالها مقالته المشهورة متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، ورغم عدله وشفافيته وعظيم استقامته ضربت الناس في زمانه مجاعة عظيمة حتى عرف ذاك العام بعام الرمادة. تاسعاً: ما ذكرته سابقاً يتطلب عند التقييم بالآثار والنتائج التفريق بين الآثار السالبة التي تكون نتيجة لسوء الإدارة والانحراف عن الكتاب وتجاوز أحكام الشريعة، وعندئذٍ واجبنا تجاهها الإنكار والتقويم والنصح والتصويب، وبين الآثار التي تكون من قبيل الابتلاء والتمحيص وفق سنن الله الكونية بعد استنفاد الامة لوسعها واجتهادها في الالتزام بالشرع، وبذلها ما في طاقتها من إقامة العدل، ولله في خلقه بعد ذلك شؤون، يفتح على من يشاء ويبتلي من يشاء، وللمؤمن في الحالتين خير عظيم، فأمر المؤمن كله خير، إما أن يرزق فيشكر أو يبتلى فيصبر. والإسلاميون يقعون في خطأ عظيم عندما يصورون الحكم بالإسلام كعصا موسى التي ستقلب بين عشية وضحاها بؤس الناس إلى سعادة، وضيق الناس إلى فرج، وفقر الناس إلى غنى، وهم حين يفعلون ذلك يقعون تحت ضغط خطاب علماني يعد الناس بالرفاه والسعة والتطور والتنمية، ولا مانع من وعد الناس بذلك، لكن على قاعدة موضوعية تدرك سنن الله في التعامل مع البشر منحاً ومحناً، سعة وضيقاً، قوة وضعفاً، والقانون الطبيعي والقانون الشرعي صنوان لأن مصدرهما واحد. عاشراً: إن الدولة في الإسلام دولة بشرية وليست دولة إلهية إلا من جهة كونها تستمد الأحكام الشرعية من كتاب الله، لكنها في الاستمداد والاستنباط تصدر عن جهد بشري، وفي التنزيل والتطبيق لما استنبطته تصدر عن جهد بشري، ولذلك أوافق الدكتور البوني في تقييم تجارب الإسلاميين في الحكم، لا من جهة تقييم العلاقة بين الدين والدولة، ولكن من جهة النظر في اجتهادات الإسلاميين وهم يستنبطون أحكام الدين ليسوسوا بها الرعية. وللأسف الشديد أغلب هذه التجارب راحت تبحث في نصوص الشرع ما يوافق منحوتات الغرب اللفظية من حريات وحقوق إنسان واقتصاديات سوق حر وسياسات نقدية، فأعادت إنتاج صورة شائهة من بضاعة الغرب نفسه لكن في قوالب إسلامية، وهذا سبب شقاء الناس لا لأنهم حكموا بالإسلام، ولكن لأنهم حكموا بخداج من أحكام مختلطة بين الإسلام والرأسمالية، والذي أوقع تلك الحركات في هذا هو أن الذين ذهبوا يعبرون عن الفكر السياسي الإسلامي والفكر الاقتصادي الاسلامي ليسوا فقهاء ولا مفكرين، بل مجموعة «مثقفاتية» نواياهم طيبة وغيرتهم على الدين محمودة.. لكن استنباط فكر سياسي إسلامي وفكر اقتصادي إسلامي وفكر اجتماعي إسلامي، يتطلب إلماماً واسعاً بالنصوص، ومعرفة غزيرة بالسنة، وعندها سنجد تفاصيل مدهشة جداً، وهذا ما أرجو أن يوفق فيه بعض بني تلك الحركات، لا سيما أن الربيع العربي أوصلهم إلى سدة الحكم في ابتلاء عظيم وامتحان عسير يراقبه العالم كله، والعالم يعيش اختناقاً يبحث عن حل لأزماته المالية والاجتماعية، ليس حلاً نظرياً في بطون الكتب، وإنما حل عملي تقوم بتطبيقه دولة ما، ليبقى الإسلام كتاباً يُقرأ وواقعاً يُشاهد!!