عند انسداد الأفق، لا يجد كثير من السياسيين والقادة إلا التبرير والتلاعب بعواطف الجماهير المغيَّبة والعبث على أوتار مشاعرها الوطنية واستثارة نقطة حساسة في دواخلهم لتهييجهم، وهذا ما فعله سلفا كير ميارديت رئيس دولة جنوب السودان، الذي عاد إلى جوبا بعد تعنُّته ورفضه التوقيع على الاتفاقية الانتقالية حول النفط مع السودان وقبول المقترحات التي تقدّم بها القادة الأفارقة الذين شاركوا في القمة الرباعية حول هذه القضية. من تبريراته أنه لن يكون من العدل لشعبه توقيعه اتفاقاً قد يفتح الباب لنزاعات جديدة لأنه لا يحلُّ المسائل الغامضة ...!ويجب أن يكون شاملاً ولا يركز على النفط فقط، ويضمن على الفور النزاع بشأن الأرض والسكان والنفط. والأهم من ذلك قوله إن الاتفاق يجعل من شعبه ضعيفاً وتابعاً يتعيّن عليه دفع ملايين غير متوجّبة عليه، وإنه يرفض الانطلاق من أن مبدأ السلام يمر بالتبعية المتبادلة لأمتينا، وأن التبعية لن تقدِّم إلا مواجهات وآلاماً إنسانية دائمة .!!! هذا الموقف للسيد سلفا كير وهذا التبرير لا يتفق مع طبيعة القضية المطروحة ولا فكرة التفاوض نفسها حول ملف النفط، ولا يجوز أن تحمل هذه القضية أكثر مما تحتمل كونه قضية ذات أبعاد محددة ليس من الوارد فيها أصلاً ولن تكون الهواجس والوسواس القهري لدى رئيس دولة الجنوب. الاتفاقية الانتقالية حول النفط، تناقش قضية اقتصادية ذات بعد تجاري، الرضى والقبول والرفض فيها هو الأساس، إما أن تقبل أو تعتصم حيث أنت في رفضك، صحيح أن لحساسية العلاقة بين السودان وجمهورية جنوب السودان ولم يمضِ على الانفصال سوى أشهر معدودات وما تم من تبعات الحرب الطويلة واتفاقية نيفاشا التي وجدت اهتماماً دولياً كبيراً، فإن بعض القوى الإقليمية وجهات دولية عديدة حوّلت قضية الخلاف حول مرور نفط الجنوب عبر السودان والانتفاع من المنشآت النفطية وموانئ التصدير والأنبوب الناقل، حولتها من مسألة من المفترض أن تحسم بين البلدين وفق قواعد السوق والتجارة والتعاملات الاقتصادية المعروفة، لملف سياسي ساخن فيه من التزيُّد السياسي ما يساوي أضعاف الجدل الفني والاقتصادي وهو الأساس في المفاوضات. حاول سلفا كير بعد أن وافق داخل القمة الإفريقية الرباعية في أديس أبابا على هامش قمة الاتحاد الإفريقي، ثم خرج ونقض ما وافق عليه، حاول لَي عنق الحقيقة وتحوير الأمر وتصوير عدم توقيعه للاتفاقية الانتقالية التي تفتح المجال لاتفاق دائم، كأنها معركة حربية حامية الوطيس وكأنه نجى شعبه من كارثة وإذلال وتبعية واستغلال وعبودية عبر أنبوب نفط ورسوم عبور.. هذا الأسلوب السلفا كيري، فيه تضليل لشعب جنوب السودان وتضييع لحقوقه، والشعب السوداني لا يصدِّق أنه تخلّص من عبْء الجنوب وصحح تاريخه، ليس فيه من يفكر ثانية في الأوهام والأباطيل التي يتحدث عنها رئيس دولة لا يعرف أن يقف وما هي مصلحة شعبه، فليهنأ الجنوب ببتروله في باطن أرضه، مثلما نحن راضون عن مطلبنا في أخذ حقوقنا من استخدام منشآتنا النفطية. موضة.. احتجاج الولايات ..! سرت في الولايات موضة مطالبة المركز بالحقوق المالية، فبعد جنوب دارفور في عهد كاشا، ثم كرم الله عباس في القضارف الذي هدد وتوعد باللجوء لمحكمة دولية كما قال!!، ها هي البحر الأحمر أيضاً تنضم لموكب المنادين بحقوقهم من المركز، وربما ينفتح الباب لولايات أخرى، تجد عنتاً في التعامل مع المفوضية القومية لتخصيص الإيرادات، وهذه المطالبات ليست من فراغ وعلى قيادة الدولة النظر في هذه الأمور التي باتت تستخدم قميص عثمان لبعض الولاة لاستدرار تعاطف مواطنيهم، أو تترك لتستغلها جهات عديدة لتأليب المواطنين ضد الدولة مما يولد ما لا تحمد عقباه. هناك مشكلة حقيقية تتعلق باعتماد الولايات على المركز بضمور الإيرادات الولائية وتضخم الإنفاق الحكومي الولائي والصرف على التنمية والخدمات، وتوجد معادلة معكوسة في تنامي الترقي الخدمي والتنموي في الخرطوم ومركز السلطة واحتباس ذلك على الولايات التي بدأ سكانها يفرِّون منها ويرحلون للإقامة في الخرطوم حيث التعليم والصحة والعلاج والرفاه الاجتماعي الأفضل. حتى لا تتحول هذه الموضة إلى حركة احتجاج حقيقية ضد المركز، على الحكومة الاتحادية جمع ولاة الولايات كلهم والجلوس معهم، من أعلى هرم السلطة، رئيس الجمهورية ونوابه ومساعديه ومستشاريه والوزراء المختصين ومفوضية تخصيص الإيرادات، ليعرف كل والٍ ما له وما عليه وما ينبغي أن يكون، وترد على كل التساؤلات والتظلمات والمطالبات، فإما أن تقنعهم الحكومة الاتحادية أو يقنعوها بحقهم في المطالبة وحقيقة ما يطالبون به.. فهذا أو الطوفان.. لأن هذه الموضة لها تداعيات ستكون وخيمة ولاتَ حينَ مندمٍ.. القضية المنسية من القضايا المحزنة التي لا يركز عليها الإعلام بكل وسائطه ، ولا الدولة في إطار تحركاتها الدبلوماسية واتصالاتها السياسية مع العالم الخارجي ومنظماته، مصير عشرات المختطفين والمختطفات من النساء والأطفال والتلاميذ والرجال في جنوب كردفان الذين اختطفتهم الحركة الشعبية وجيشها وعشرات المغتصبات والمقهورات، وقد دُوِّنت العديد من البلاغات في مدن جنوب كردفان تصل لأكثر من مائة بلاغ، وتوجد إفادات من ذويهن، وتوجد قصص مأساوية ومرويات تفطر القلب وتوثيق دقيق لهذه الجريمة النكراء والقضية المنسية، وقد سبق للأخ الصديق والزميل يوسف عبد المنان أن كشف الكثير من هذه القضية وتحرُّك جهات ومنظمات من جنوب كردفان في هذه القضية والمحزن أكثر أن رئيس المجلس التشريعي بجنوب كردفان محمد إبراهيم بلندية أحد أبرز قيادات النوبة كشف عن أن الحركة جنّدت حتى الآن في حربها في الولاية أكثر من خمسة آلاف من تلاميذ المدارس تدرِّب فيهم الآن في الجنوب وسيكونون وقود حرب طويلة إن لم تتحرك كل أجهزة الدولة لتحريرهم من ربقة الحركة الشعبية وجيشها وملاحقة مرتكبي جرائم الاغتصاب والاختطاف والتجنيد القسري. بشارات الجاز يطلق وزير النفط د. عوض أحمد الجاز هذه الأيام، بشارات عديدة حول الاكتشافات النفطية بالسودان في مربعات مختلفة يرتفع بها إنتاج السودان ويصل لمستوى يضمن للبلاد وضعاً اقتصادياً مريحاً ويحقق تطلعات التنمية والنمو، وتزداد الآن حركة الاستثمارات النفطية السودانية من الشركات الصينية الكبرى (CNPC) - China National Petroleum Corporation، والشركات الروسية التي أبدت رغبتها في دخول مجال الاستثمار النفطي في السودان. إذا ركزنا على هذه البشارات وسرنا فيها بعزم كبير سنتجاز ببشارات الجاز، كل المفاوز والعقبات ولن تحصد مؤامرات الخارج وحكومة الجنوب إلا الهشيم. من يذكر أنور الجندي...؟ من لا يعرف أنور الجندي..؟ لكن سجوف النسيان ..!قبل يومين طالعت مقالة لكاتب مصري عن الذكرى العاشرة لوفاة المفكر الإسلامي والأديب والشاعر الكبير أنور الجندي الذي توفي بالقاهرة في 28يناير2002م، وساهمت كتاباته في كل مجالات الفكر الإسلامي وقضاياه في تكويننا الفكري والثقافي والسياسي، وهو من أعظم المفكرين وأغزرهم إنتاجاً في الكتابات الموسوعية عن الإسلام والحضارة والغرب والتيارات الوافدة والفلسفات المعاصرة والمناهج والأمة الإسلامية ووحدتها ووسطيتها والإسلام في وجه التغريب والاستشراق والخروج من التبعية والدعوات الهدامة والسلسلة الكاملة التي أسماها «معلمة الإسلام» وغيرها من الكتب التي وصلت لأكثر من خمسمائة وسبعين كتاباً ومؤلفاً موسوعياً ودراسة، عالج كل قضايا المجتمع المسلم والحضارة الإسلامية والأدب والسياسة والرواية والفلسفة والنقد الأدبي والمراجعات وغيرها.. وأنور الجندي رجل عصامي ثقّف نفسه وقدّم خدمة جليلة للإسلام وحمل راية الدفاع عنه ضد التغريب والاستشراق والصهيونية والمناهج والدعوات الهدامة... لو كان فناناً خليعاً متبذلاً أو نجمَ سينما أو شاعراً ماجناً أو سياسياً عميلاً مفرطاً لما تناساه الإعلام في بلادنا العربية والإسلامية.. لكن جزاءه الأوفى عند الله...رحمه الله رحمة واسعة وجعل الجنة مثواه.