أكثر ما يفقع المرارة ويفْري الكبد ويقطع نياط القلب أن قبيلة النّعام الممتدة عبر الأزمان في مسرح السياسة السودانية لم تفهم على مدى أكثر من نصف قرن من الدِّماء والدُّموع والدَّمار والتخلُّف والمكايدات والحقد الأعمى الذي تنطوي عليه النُّخب الجنوبية من لدُن أقري جادين وجوزيف أدوهو قبل الاستقلال وحتى باقان وسلفا كير اليوم.. أقول لم تفهم قبيلة النعام وهي تتفاوض حول البترول وخطوط الأنابيب وغير ذلك من القضايا العالقة أن سياسة الجنوب نحو الشمال لا تحرِّكها المصالح أو الاعتبارات السياسية أو الاقتصادية وإنما يحرِّكها شيءٌ واحد يمثل جذر المشكلة التي ظلت تحكم علاقة الجنوب بالشمال هو ذلك الحقد الذي تنوء عن حمله الجبال والذي بغَّض القوم في الشمال وجعلهم يفهمون أن استقلال الجنوب عن الشمال يظل منقوصًا ما لم تنقطع الصلة تمامًا بالشمال بما لا يجعل الجنوب معتمداً بأية صورة من الصور على الشمال وأن مجرد نقل بترول الجنوب عبر الشمال أو من خلال انابيب تمتد عبر الشمال يعني انتقاصاً لاستقلالهم أو يعني أن الشمال لا يزال يمارس الوصاية على الجنوب ويتحكم في قراره السياسي فالشمال بالنسبة للجنوب هو الشيطان الرجيم بل إن الشيطان الحقيقي صديق حميم ورحمن رحيم بالمقارنة مع الشمال!! تلك هي المشكلة الحقيقية التي عجز الشمال حتى اليوم عن إدراكها الأمر الذي جعله على الدوام (يعرض بره الداره) ويتخبّط في قراراته ويرتكب الأخطاء الكبرى التي دفع ثمنها دماء ودموعاً وتخلفاً وأضاع عمراً كان من الممكن أن يجعله في حال آخر ولكن!! في عالم السياسة والأمن صار مفهوماً أن تدرس شخصية من تتعامل أو تتفاوض معه بما في ذلك الجانب النفسي ومن ثم تضع إستراتيجية التعامل والتفاوض بناء على هذه المعلومة المهمة للغاية المتمثلة في سبْر أغوار الطرف الآخر حتى تتعامل معه وفق تلك النفسية ولذلك من الخطأ الفادح أن تجلس مع باقان وتتحدّث عن حساب الأرباح والخسائر وتنسى أنه ليس معنياً بما تفكر فيه أنت من خسائر مادية أو نحو ذلك يتكبدها جراء إقامة خط أنابيب يمر عبر الأراضي الكينية ويكلِّف أضعاف ما يدفعه نظير نقل بتروله عبر الشمال فهو يهمُّه أمران أولهما أن يحقِّق استقلاله الكامل منك أنت عدوه الأكبر وثانيهما أن يُلحق بك أكبر قدرٍ من الأذى ويعطِّل أنابيب النفط والمنشآت النفطية الشمالية حتى يفتك بك في إطار إستراتيجيته السياسية ومشروعه الانتقامي من عدوِّه الإستراتيجي. في سبيل ذلك يحرص الجنوب ومن يتفقون معه في إستراتيجية الحرب على الشمال على أن يمدّ خط أنابيب يكون مملوكًا للجنوب يمر عبر الأراضي الكينية إلى ميناء جديد وقد بدأ التخطيط لذلك منذ عام 2005م يا من لا تقرأون ولا تستطيعون أن تتقمّصوا بسبب طيبتكم ودروشتكم نفسية باقان ورهطه الذين نذروا حياتهم للفتك بكم بأكثر مما نذر الشيطان نفسه لإلحاق الأذى بالبشر (لأغوينّهم أجمعين) (لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم) إنها نفسية باقان التي عبّر بها يوم رحيله عنا (ارتحنا من وسخ الخرطوم) ويوم أن تحدّث عن (الحزام الأسود حول الخرطوم) الذي سينفجر ولم يمضِ على حديثه ذلك بضعة أشهر حتى انفجرت أحداث الإثنين الأسود في أغسطس 2005م في قلب الخرطوم!! ويوم قال في تصريح خطير قبل سبعة أشهر من توقيع نيفاشا: (نيفاشا ستقضي على دولة الجلابة)!! إنها نفسية السياسي الجنوبي بوث ديو الذي قال من داخل الجمعية التأسيسية في خمسينات القرن الماضي (لو كنتُ شمالياً لانتحرت)!! تلك النفسية لن يفهمها المفاوضان إدريس عبد القادر أو سيد الخطيب فهؤلاء من طينة أخرى وثقافة أخرى وبيئة أخرى لذلك لا غرو أن يتلاعب بهم قرنق ويوردهم موارد الهلاك في نيفاشا وندفع ثمن ذلك خطايا سياسية مدمرة تحتاج إلى كتب لكي ندرك ما ألحقته بنا من أذى لكنهم رغم ذلك لا يترجّلون بل يظلُّون جاثمين على أنفاسنا لا يُقالون ولا يستقيلون!! أما غازي صلاح الدين فيترجل يوم وقّع اتفاقية الدوحة!! ندفع بهم إلى أديس أبابا ويوقِّعون اتفاقاً إطارياً لا يقل كارثية عن نيفاشا بدون أن يطرف لهم جفن وحتى بعد أن تنزّلت علينا رحمات الله وتم إلغاء ذلك الاتفاق المدمِّر لم يفكر أولئك العباقرة الأفذاذ في الاستقالة احتجاجاً أو خجلاً أو اعتذاراً بل ظلوا يقودون وفود التفاوض حتى اليوم وإلى يوم يُبعثون!! ولم لا يفعلون؟! ألم تعقم نساء السودان عن الإنجاب ثم هل تنتهي مهمة الملائكة قبل يوم القيامة؟! تهرِّج الصحافة عن الفساد وتقيم الدنيا إذا اختُلس أو سُرق أو نُهب مبلغ هزيل أما من يرتكبون الجرائم السياسية الكبرى فإنهم يظلون بلا حساب أو مساءلة بل يكرمون ويبجلون ويُعاد تكليفهم ليواصلوا التلاعب بمصير بلاد بلا وجيع لو حدث ما يفعله بعض بنيها بها في بلاد أخرى لنُصبت لهم المشانق ولكن ... إنّها بلاد خبط العشواء.. إنها بلاد منكوبة.. إنها بلاد ملغومة ... أرجو أن أتوقف عن الكتابة حتى لا أتقيأ على الورق!!