كتبتُ بصفحتي على (الفيسبوك): (نمضي نحو إكمال شهر والدولة بلا وزراء، لم يتوقف عمل ولم نفقد خدمة.. في الغياب يتضح عدم جدوى الحضور). على غير العادة، لا تجد أن هناك اهتمامًا كبيرًا بالتشكيل الوزاري القادم في حكومة رئيس الوزراء محمد طاهر إيلا. في مثل هذه الأوقات، كانت تكثر التكهُّنات وتنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي قوائم وهمية للوزراء الجدد، وتضج الأسئلة على صفحات الصحف: من سيبقى ومن سيغادر ومن سيأتي؟! -2- أكاد أجزم، لا توجد دولة يتم فيها اهتمامٌ ومتابعة كبيرة بتشكيل الحكومات واختيار الوزراء مثل ما يحدث في السودان. مع تعاقب الوزراء وقصر فترة البقاء في المنصب، والترخُّص في المؤهلات إلى الحدود الدنيا؛ أصبح سقف التطلُّعات مفتوحًا على مصراعيه أمام كُلِّ شخص لديه الرغبة في الترقي السياسي بغضِّ النظر عن إمكاناته ومؤهلاته. السلاح والشوكة الجهوية والقبلية والانتماء الحزبي، كلها تُحقِّقُ ما لا تُحقِّقه الشهادات والسير الذاتية المُرصَّعة بالإنجازات والمؤهلات الأكاديمية. كنت أقول دائمًا إن الحرس الذي يقف خلف وزير ما قد يكون لديه طموح وتطلُّع أن يجلس في مكانه، فهو يرى في قرارة نفسه أنه لا يقلُّ شأنًا عن من يحرسه! المسألة باتت مفتوحةً على كُلِّ شيء، والتطلُّعات غير موضوعية ومُطلقة، ولا يوجد أساسٌ معياريٌّ لحسم التنافس وتحديد آليات الترقِّي السياسي، من يصلح لماذا؟ -3- أضحكني المُؤرِّخ والكاتب السوداني بروفيسور عبد الله علي إبراهيم، وهو يُعلِّق قبل سنوات على حوار صحفي تمَّ فيه تعريف المُحاوِر وهو واحد من القيادات الوسيطة بإحدى حركات دارفور بأنه خاطف طائرة الفاشر الشهيرة. دكتور عبد الله بسخريته المُحبَّبة علَّق: (في الماضي كان يتمُّ تعريف السياسيين بنشاطهم في اتحادات الطلاب الجامعية؛ كان رئيس اتحاد جامعة الخرطوم، أو رئيس المجلس الأربعيني، أو أحد قادة ثورة أكتوبر أو أبريل، الآن أصبحوا يعرّفونهم باختطاف الطائرات). -4- مع توالي التعديلات الوزارية، تجد بعض الوزراء عابرين على المناصب، دون ذكرٍ ولا عطرٍ مُميَّزٍ وبلا مبادرات، دون أن نكون قد حفظنا أسماءهم. وزراء يعتبرون المنصب الوزاري فرصةً لترتيب أوضاع ما بعد الخروج، ويعملون بمبدأ السلامة و(مسح الخشم). كُلَّما انتظروا المهام، جاءت إليهم الامتيازات، فالتزموا الصمت الخنوع والابتسامة الراضية إلى أن تأزِفَ آزفة المُغادرة. المقعد الوزاري يتسابق إليه الآلاف بأقدام اللهفة وحماس الرغبة العارمة. من أجل السيارات الفارهة والحرس الخاص ورجال المراسم والسفريات على الدرجة الأولى والقلم الأخضر التريان، تُرَاقُ الدماء وماء الوجوه. السياسيون دائماً هم نجوم المُجتمعات المأزومة. -5- والحال على ذلك، كنت قد طالبتُ بخفض القيمة المادية والتفاخرية للمنصب الوزاري، لتقلَّ جاذبيته إلى الحد المعقول، حتى يُصبح واحداً من عدَّة خيارات مُغرية. لن تُحلَّ مُشكلات السودان، طالما أن المناصب الوزارية بكُلِّ هذه الجاذبية المُغرية بالتنافس الشرير. لن تُحَلَّ مُشكلات السودان طالما أن لقب وزير أهم من كُلِّ الألقاب العلمية والوظيفية. لذلك قد يكون الخيار تقليل جاذبية المنصب الوزاري وتقليص صلاحيات الوزراء، في حدود السياسات الكلية ومتابعة تنفيذها، وعلاقة وزاراتهم الخارجية. ما أقعد بعمل الوزارات كثرة تعاقب الوزراء، وكُلُّ وزير يُريد صناعة تاريخ خاصٍّ به داخل المؤسسة، يبدأ من لحظة جلوسه على المقعد. -6- بإنفاذ وعد الرئيس عمر البشير بتشكيل حكومة كفاءات، ستكون الدولة قد اختارت الطريق الصحيح الذي سلكته دولٌ قبلنا، فوصلت إلى ما تصبو إليه: تقديم الكفاءة على كُلِّ الولاءات. كلمة السِّر في نجاح التجربة السنغافورية في إدارة الحكم، تقديم الاعتبارات الاقتصادية والتنموية على جوانب السياسة، والاعتماد على بيروقراطية صغيرة الحجم ذات كفاءة عالية. لي كوان يو، مؤسس نهضة سنغافورة، لخَّص روشتة النجاح في هذه الوصفة: (اخترنا دائماً الفرد أو العنصر الأفضل لأيِّ مهمة أو واجب، مهما كانت انتماءاته أو أصله أو دينه، كنا نهتمُّ بالنتيجة فقط، وكنا نعلم تمامًا أن فشلنا يعني حروبًا أهلية واندثارَ حلم). -7- معركة الحكومة ليست مع الأحزاب السياسية المُعارِضة، ولا الحركات المُسلَّحة، حتى تُرضيها بالمناصب أو تحسمها بالسلاح. معركة الحكومة من أجل كسب رضا المُواطنين بتقديم الخدمات، وتيسير سُبل العيش وتحقيق الحياة الكريمة. معركة الحكومة من أجل صناعة دولة ذات سمعة عطرة وسلوك قويم، وإنتاج وفير، يسد الحاجة ويُغني عن عطايا الغير، ويكفُّ عنا أذاهم. دولة يُحبِّها المواطن ويحترمها الآخرون.