(عطبرة) أمل أبو القاسم احتجز لنفسه مقعداً وثيراً في الصفوف الأولى لقائمة المنضوين تحت ألوية المخترعين الذين أسهموا وآثروا أوطانهم بما جادت به قريحتهم، فكانت له الريادة في فن التصوير، ليس ذلك فحسب بل عدد من الأعمال التي تحوم في ذات المضمار، فقد بدأ "الرشيد مهدي" هوايته المحببة (التصوير الفوتوغرافي) كأول سوداني يقتني آلة تصوير فوتوغرافي وهي الكاميرا (الالمونيت) التي حذقتها أياديه المدربة، وقد كان لها قصب السبق في توثيق أشياء عدة، أصبحت الآن أرشيفاً يستدل به ودار وثائق خاصة به وعائلته امتدت فروعها خارجاً. و"الرشيد" الذي قطع الكثيرون الفيافي بين (الخرطوم) و(عطبرة) يقصدون عدسته الشفافة، من مواليد قرية (مورة) بالشمالية أوائل الثلاثينيات، انتقل مع والده إلى (عطبرة) وعاش فترة في قرية (المكايلاب)، درس الوسطى بمدرسة الصنائع بأم درمان وتخرج منها نجاراً محترفاً وأول الدفعة، بعدها التحق بورش السكة الحديد (عطبرة) عام 1949م. وللمزيد استعانت (المجهر) بأحد أبنائه فكانت هذه السيرة الثرة. الكاميرا المعمل حدثنا ابنه "أمين الرشيد" أن والده قام بصناعة الكاميرا بنفسه، وهي مصممة على أساس متطور، ورغم بدائية التجربة فهي عبارة عن معمل متكامل، حيث يتم التحميض والطبع داخلياً، ذلك أنها تحوي (ماء المحمض) ويتم ذلك على ورق برومايد، فيصور ثم يطبع (نجتف)، ثم يصورها مرة أخرى فتخرج صورة مكتملة، وزاد بأن والده استخدم الكاميرا الخاصة به أولاً في الشارع وذلك في العام 1946م، مقتطعاً مساحة محددة وضع عليها ستارة، حيث أنه لم يكن بالكاميرا (فلاش) يعتمد على ضوء الشمس فقط، استمر على ذلك الوضع إلى أن تمكن من إنشاء محل خاص عام 1952م. كان "الرشيد مهدي" يراسل (كوداك لندن) ويشتري منهم مواد التصوير المختلفة من أفلام وورق ومواد تحميض وخلافه، واستطرد "أمين" في سرد حكاية والده مع التصوير بأن وفداً من شركة (كوداك) حضر إليه خصيصاً بمدينة (عطبرة) وطلبوا منه مرافقتهم لفرع شركتهم بمصر والكائن ب(شارع مراد)، رافقهم وهناك خضع لبعض التدريبات التي انتهت بدهشتهم على مقدرته الفائقة، وأنه من أفضل المصورين الذين أخرجتهم الإمبراطورية البريطانية، وعندما عاد أحضر معه إضاءة ثم أنشأ أول أستوديو. زعماء في عيون الكاميرا أول من وثقت له كاميرا "الرشيد" هم قادة وعامة الحركة العمالية، نقابة وعمال السكة الحديد ومنهم على سبيل المثال "ياسر أمين" و"المحلاوي"، وصور تاريخية ل(عطبرة) القديمة، كما أن الانجليز كانوا كثيراً ما يدعونه لتصوير مناسباتهم، وصور بعض قياداتهم وعلى رأسهم السير "جيمس روبروتسون" السكرتير الإداري لحكومة السودان، إلى جانب عدد من القيادات السودانيين، أمثال الزعيم "إسماعيل الأزهري" و"المحلاوي" و"مبارك زروق" وأغلب السياسيين الذين زاروا (عطبرة) مروراً بحكومة الرئيس "عبود" و"عبد الله خليل" و"يحيى الفضلي" و"الصادق المهدى" والرئيس "نميري"، كما لديه صور نادرة لأول طيارين سودانيين وكثير من رجالات الجيش والشرطة القديمة والحديثة. وأضاف "أمين الرشيد" بقوله إن نفراً من المجالات كافة كانوا يحضرون ل(عطبرة) من أجل التصوير، وأضاف أن من الفنانين الذين خضعوا لعدسته "العطبراوي" و"أبو داؤد" و"الكحلاوي"، أما الزعماء الأجانب منهم الصومالي "جهاد بري" و"دقادميرا" زوج الملكة "إليزابيث" و"جمال عبد الناصر" وعضو الثورة المصرية "صلاح سالم". آمال وأحلام لم يقتصر طموح أول مصور سوداني على الصور الفوتوغرافية، بل نزع نحو تطوير إمكانياته، وبحسب "أمين" فقد كان والده رجلاً متطلعاً ليست لطموحه حدود، وكثيراً ما نازعته نفسه الأمارة بالبحث والتقصي لإنتاج أعمال سينمائية، وقد كان له ذلك حيث قام بتصوير أول فيلم روائي سوداني وهو (آمال وأحلام) الذي بدأ تصويره في أوائل الستينيات من تأليف الدكتور "هشام عباس" وإخراج الأستاذ "إبراهيم ملاسي" وعُرض بدار السينما (أم درمان الوطنية) وكثير من الدور بمدن السودان. هذا الفيلم تم تحميضه بمعامل (دوناتو) ب(ميلانو) بايطاليا ونال شهادة. وبناءً على ذلك مُنح "الرشيد مهدي" قطعة أرض لبناء أستوديو (الرشيد السينمائي) بمدينة (عطبرة) استورد له جميع معدات السينما اللازمة بدءاً من كاميرا تصوير وأجهزة التحميض والصوت والطباعة وحتى العرض والشاشة. ول"الرشيد مهدي" عدد من الأفلام الوثائقية، أيضاً سيناريو فيلم (الشمس المحرقة) وهو فيلم يحكي عن بطولة الشعب السوداني بداية من ثورة اللواء الأبيض 1924م وهو مجاز ومسجل بالمصنفات الأدبية منذ عام 1982م، وقد أشاد به الدكتور المرحوم "محمد إبراهيم أبو سليم". ابن الوز عوام وبجانب كل ذلك قام "الرشيد مهدي" بإنشاء مطبعة تحمل أسمه وذلك في عام 1958م بمدينة (عطبرة) كأول مطبعة في الولاية الشمالية، وكانت تقوم بأعمال الطباعة المختلفة. ابن الوز عوام أو كما قال المثل الذي جسده "أمين الرشيد" الذي عام وبحرفية على موجة والده مقتفياً درب التصوير، متخرجاً من معهد (الفنون) ب(ألمانيا)، وصقلها بدراسة الفوتوغرافيا ب(القاهرة)، والآن لديه أستوديو خاص ب(عطبرة)، فضلاً عن مركز توثيق لمقتنيات والده شمل كل ولاية نهر النيل والجاليات التي سكنتها، وصور رفع العلم السوداني أبان إعلان الاستقلال في (عطبرة)، ويوجد معرض آخر في (باريس) و(بروكسل). توفي "مهدي" في سبتمبر من العام 2008م مخلداً سيرة عطرة.