غلبت على الصحافة السودانية في الأسابيع الماضية قصة استقالة السفير الأمريكي "ستانفورد" القائم بالأعمال لبلده (الولاياتالمتحدةالأمريكية) في السودان من منصبه الدبلوماسي في وزارة الخارجية الأمريكية، لأسباب قيل عنها أمريكياً ورسمياً إنها أسرية وشخصية، وقيل عنها من مصادر أخرى وصحفية سودانية إنها بسبب اعتناقه الإسلام، وهو الذي كانت له اتصالاته وعلاقاته الحميمة مع الطرق الصوفية السودانية ومراكز الذكر التي كان يغشاها بين الحين والآخر. البعض كان يعتقد أن ذلك بادئ الأمر كان عملاً سياسياً ودبلوماسياً واجتماعياً قصد منه السفير كسب ود أهل الطرق الصوفية وتجييرهم لمصلحة السياسة الأمريكية ولوبياتها ضد النظام الحاكم في البلاد، الذي تقاطعه وتضغط عليه الإدارة الأمريكية دبلوماسياً وسياسياً واقتصادياً منذ وصوله إلى السلطة، بدعوى مساندة الإرهاب الإسلامي بعد حادث تفجير مبنى التجارة العالمية في نيويورك وجزء من وزارة الدفاع الأمريكية في واشنطن في الحادي عشر من سبتمبر - أيلول 2001م. إلا أن الصورة قد تغيرت فيما بعد، والسفير "ستانفورد" يظهر شعوره وحبه للشعب السوداني وتقاليده الدينية والمجتمعية، ويغرق في حلقات الذكر والمشاهد الصوفية التي يحرص عليها، بما جعل البعض يفسر ذلك ويفهمه على أنه تحول عقدي إسلامي وحب للشعب الذي أصبح يعلن أنه شعب نبيل وعظيم وذو سلوكيات وخصوصيات معتبرة، بل ذكر بعض أهل الصحافة من الكُتّاب ومصادر الأخبار ونسبوا إليه القول أنه هو والسيدة حرمه يعدان السودان (وطنهما الثاني) بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية..! والسفير "ستانفورد" رغم أنه أبحر بعيداً في هذا الشأن والسياق، ووصل إلى مرحلة الاستقالة من المهنة التي قضى فيها عمره تقريباً، وربما يكون قد أسلم بالفعل، يكون قد ضرب السياسة الأمريكية التي أعلنت الحرب على الإسلام وقاطعت جل الدول الإسلامية وحظرتها في مقتل، ومن تلك الدول بطبيعة الحال جمهورية السودان التي عملت لها ما وسعها في فصل جنوبها عن شمالها، وأذاقت شعبها الأمرين عبر الحصار الاقتصادي ودعم الجماعات الدارفورية المتمردة وغيرها. الأسبوع الماضي وقد ودّع القائم بالأعمال والسفير الأمريكي الشعب السوداني بكلمة طيبة، ذكر فيها ارتباطه وأسرته بالكثير من القيم والعادات السودانية في العبادات والمأكولات التي لن ينساها، وربما كان لها حضورها في مائدته وذهنه وفكره، وهو مواطن أمريكي حر من حقه أن يبدي ما لديه ويظهره ويدافع عنه بعيداً عن التقاليد السياسية والدبلوماسية التي يفرضها الموقع. وقد يكون في رأس ومقدمة ذلك أثر الثمانية عشر شهراً التي قضاها في السودان، وتعرف فيها على الإسلام المجتمعي والعقدي، وعلى السلام الاجتماعي الذي تنعم به البلاد والذي لا بد أن يكون له أثره في اتخاذه القرار بالاستقالة. فالموضوع ليس أسرياً أو شخصياً فحسب، وإنما له أبعاد أخرى يسفر عنها مقبل الأيام.. والرجل وأسرته ينعمان بحريتهما. لقد كان من الصعب جداً أن يعلن السفير "ستانفورد" أن من أسباب استقالته أنه قد أسلم، ولذلك توابعه في السياسة ال (صهيو - مسيحية) التي تتبناها الأحزاب والقوى النافذة في المجتمع الأمريكي ومؤسساته الدستورية، ومنها الحزبان الكبيران (الجمهوري والديمقراطي). لا مغالطة أو مكابرة في أن الحرية الدينية متاحة بقدر ما في المجتمع الأمريكي عموماً، إلا أنها لا تصل إلى حد الخروج على تقاليد المؤسسات الرسمية وفي مستوياتها المؤثرة كالدبلوماسية. فالإرهاب والتعصب الديني يأتيان في مقدمة السياسة الأمريكية التي ترفعها في وجه الكثيرين، ويتبعها من الأعمال الكثير مما هو غير مقبول إنسانياً أو سياسياً كالقتل بطائرات بدون طيار..! وهنا ربما يذكر الكثيرون في السودان أن السفير "تيموذي كارني" وأسرته، الذي كان سفيراً لبلده (أمريكا) في السودان في منتصف تسعينيات القرن الماضي، كان منفتحاً على المجتمع السوداني ومؤسساته، وشاهد حق على ما يجري فيه، رغم أن السياسة والدبلوماسية الأمريكية ضد السودان قد كانا في قمتهما، إذ بدعوى الإرهاب كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية قد نقلت سفارتها ودبلوماسييها في الخرطوم إلى العاصمة الكينية (نيروبي)، وهناك عانت لأول مرة من اختطاف عرباتها والهجوم - فيما بعد - على سفارتها هناك. ولأن السفير "تيموذي كارني" وهو (صحفي) من قبل كان له رأيه وتقاريره المخالفة للغلو الدبلوماسي الأمريكي، كان قد نقل من الخرطوم إلى دولة تاهيتي. ومن هناك كان الرجل قد تقدم باستقالته من السلك الدبلوماسي لينعم بحريته ويتحدث بصراحة. وبالفعل كان له بعد استقالته كتابه عن تجربته السودانية التي أشاد بها.. وذلك تقريباً أول انقلاب على المؤسسة الدبلوماسية الأمريكية التي ما درجت على أن يقول لها أحد (عينك في رأسك) أو (البغلة في الإبريق..!)، ذلك أنه ورغم الفضائح التي تطرق لها "ويكيليكس" في موقعه الإلكتروني مؤخراً، قد أصبح كشف المستور مباحاً ومتاحاً عبر جملة وسائل، ومنها كتابة المذكرات والسير الذاتية. لقد شهد منتصف التسعينيات من القرن الماضي جملة مناشط وإجراءات تدفع عن جمهورية السودان دعم الإرهاب أو العمل به.. غير أن السياسة والدبلوماسية الأمريكية لم تلقيا بالاً لذلك، بل زاد العنف الدبلوماسي وطغى. ويذكر هنا على سبيل المثال: - رحيل الشيخ "أسامة بن لادن" وهو رجل أعمال يومئذٍ، ولم يكن إرهابياً، من البلاد إلى بلد آخر بناءً على طلب البعض من دول الجوار. - تسليم الإرهابي الكبير والمطارد عالمياً "كارلوس" للجمهورية الفرنسية بعد اتفاق تبادل مجرمين بين البلدين.. و"كارلوس" هو الذي دخل البلاد بدعوى رجل أعمال عربي ولم يكن معروف الهوية إلا بجهود فرنسية سودانية. أما اعتناق الإسلام في الدبلوماسية الغربية وتفاعلاته بشكل عام، فيشار فيه هنا إلى سفير ألمانيا في الجزائر "مراد هوفمان" في ثمانينيات القرن العشرين الذي صار عالماً في الشأن الإسلامي وغيّر اسمه وتزوج بمواطنة تركية. وقد أثار ذلك كله جدلاً ولغطاً إعلامياً وسياسياً كبيراً في الجمهورية الألمانية ومؤسساتها الدبلوماسية والدستورية، مما أدى إلى مغادرته الموقع، اختياراً أو غصباً لا ندري، وكان ذلك مثار نقد واعتراض من البعض خارجياً على عدم الحرية الدينية وغياب الديمقراطية، فرحل الرجل بكامل أسرته إلى تركيا ليصبح عالماً مسلماً له شهرته ومساهماته في العمل والفكر الإسلامي، وهي كثيرة وذكرها وأشاد بها الكثيرون. فالسفير "ستانفورد"، وأياً ما كانت أسباب استقالته، فهو لم يكن الوحيد في هذا الشأن في الدبلوماسية الغربية، وستكشف لنا الأيام ما كان غائباً في هذا الخصوص، أي عندما يتحرر ويصبح له رأيه ومعتقده الديني، فهو عندئذٍ مواطن أمريكي (من عامتهم) وليس دبلوماسياً.