بعيداً عن السياسة و(خرمجتها) ورهقها، نقترب اليوم، يوم الجمعة المبارك من معمل تحاليل الأمراض المجتمعية.. النتائج المعملية يشيب لها الرأس وتخفق لها القلوب في الصدور.. حب النفس سرطان المجتمعات، إنه مرض عُضال استشرى في مجتمعنا وألبس أفراده شيعاً يذيق بعضُهم بأس بعض.. قال لي وصوته يغالبه حزن الناي: أتذكر صديقنا (فلان)، لقد أضحى مفعماً بحب المال حتى الثّمالة.. نعم لم يعد من الممكن تسويق فضل الإيثار دعك عن السيطرة على الأنانية وحب النفس.. أين نحن من مجمتع الطهر والنقاء؛ مجتمع الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً؟.. قيل إنه استشهد باليرموك عكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، وجماعة من بني المغيرة فأتوا بماء وهم صراعى فتدافعوا حتى ماتوا ولم يذوقوه.. أتى عكرمة بالماء فنظر إلى سهيل بن عمرو ينظر إليه فقال أبدأ بهذا، ونظر سهيل إلى الحارث ينظر إليه فقال أبدأ بهذا، وكل منهم يؤثر الآخر على نفسه بالشربة فماتوا كلهم قبل أن يشربوا، فمر بهم خالد بن الوليد فقال: بنفسي أنتم، رضي الله تعالي عنهم. الإيثار تقديم الإنسان حاجة غيره من الناس على حاجته، برغم احتياجه لما يبذله، فقد يجوع ليشبع غيره، ويعطش ليروي سواه.. قال "صلى الله عليه وسلم": (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).. السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: (ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا، ولو شئنا لشبعنا، ولكننا كنا نؤثر على أنفسنا).. سيدنا علي رضي الله عنه قال: (الإيثار أعلى الإيمان).. يقول بعض السلف: عامل سائر الناس بالإنصاف وعامل المؤمنين بالإيثار.. سئل بعض الحكماء: من أجود الناس؟ قال: من جاء من قلة، وصان وجه السائل عن المذلة . أثنى الله تعالى على أهل الإيثار، وجعلهم من المفلحين. والإيثار كذلك من أخلاق الإسلام إذ حض عليه وأمر به، فقال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الحشر الآية (9).. الإيثار ضد الشُّح، فإن المؤثر على نفسه تارك لما هو محتاج إليه، والشّحيح: حريص على ما ليس بيده، فإذا حصل بيده على شيء شح عليه وبخل بإخراجه، فالبخل ثمرة الشُّح والشُّح يأمر بالبخل كما قال النبي "صلى الله عليه وسلم": (إياكم والشُّح فإن الشُّح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا) فالبخيل: من أجاب داعي الشُّح، والمؤثر: من أجاب داعي الجود، كذلك السخاء عما في أيدي الناس هو السخاء، وهو أفضل من سخاء البذل. قال عبد الله بن المبارك: سخاء النفس عما في أيدي الناس أفضل من سخاء النفس بالبذل وهذا المنزل: هو منزل الجود والسخاء والإحسان وسمي بمنزل الإيثار لأنه أعلى مراتبه فإن المراتب ثلاثة، إحداها: أن لا ينقصه البذل ولا يصعب عليه فهو منزلة السخاء.. الثانية: أن يعطي الأكثر ويبقي له شيئاً أو يبقي مثل ما أعطى فهو الجود.. الثالثة: أن يؤثر غيره بالشيء مع حاجته إليه. وهي مرتبة الإيثار وعكسها الأثرة وهو استئثاره عن أخيه بما هو محتاج إليه، وهي المرتبة التي قال فيها رسول الله "صلى الله عليه وسلم" للأنصار رضي الله عنهم: (إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) والأنصار: هم الذين وصفهم الله بالإيثار في قوله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)، فوصفهم بأعلى مراتب السخاء وكان ذلك فيهم معروفاً. آخر الكلام: ألا ليت شعري وخطوب الفاشلين كثيرة فإن لكل داء دواء، فلم يكن الصبر يوماً غير دواء فاعل.. والصبر والصمتُ صِنوان ولابد لكل فائز بهما أن يمتشق نفساً صلبة متفانية.. وترياق هذين الصِنوين ليس في تحصين صاحبهما وعونه في الحفاظ على توازنه النفسي فحسب، بل تأثير ذلك الترياق الناجع يمتد إلى الفاشل الحسود نفسه، فيتبدل حقده حباً، وتربصه ولاءً، وقلقه استقراراً.. نسأل الله الهداية والشفاء للمرضى.