لأن الحكومة مفلسة، وحائرة، ولم تعد قادرة على كبح جماح الغلاء .. كما فقدت البوصلة في مد الخزينة بالعملة الصعبة، فقد بدأت كما التاجر المفلس، تبحث في دفاترها القديمة ! الحكومة لم تنبش في تلك الدفاتر بحثا عن مديونيات تأخر تحصيلها .. لكنها تفعل ذلك رغبة في استرضاء من أهملتهم بالأمس، وضربت الطناش عن معاناتهم، وتنكرت لهم عند عودتهم، وأقصد تحديدا المغتربين السودانيين . ولكي لا نظلم الإنقاذيين، فإن إهمال المغتربين كان ديدنا لمن سبقوهم أيضا، ولم يكن همّ الخزينة إلا استحلاب المغتربين، ومطاردتهم ليدفعوا ويدفعوا، بدءا من رسوم الدخول لمطار الخرطوم، مرورا بحرمانهم من العودة لدول اغترابهم ما لم يدفعوا الضرائب الباهظة، ومعها جبايات عجيبة تمتلئ بها القائمة قبل الحصول على خلو الطرف الضريبي، وانتهاء برسوم المغادرة التي تستحلب آخر قرش في جيب المغترب قبل العودة لدولة الاغتراب . بل إن الأمر لم يتوقف عند ذلك، لكنه ظل مصحوبا بجحود لدور المغتربين، وقد قالها أحد المسؤولين منذ سنوات في ندوة شهيرة بمدينة الرياض السعودية، حين قام بتبخيس الدور الذي ظل يؤديه المغتربون في دعم خزينة البلاد، وسط دهشة من حضروا الندوة .. وكلهم من المغتربين ! الجديد .. أن وزير رئاسة مجلس الوزراء، أحمد سعد عمر، قال قبل أيام إن موضوع اقتصاد الهجرة يتصدر قائمة الأولويات، مشيرا إلى أن مدخرات المغتربين تتسرب عبر أيدي وسطاء إلى الدول الأخرى، ما يقلل تشجيع التحويلات للبلاد، في حين أن هذه المدخرات، حسب رأيه، تأتي موازية للبترول والزراعة والثروة الحيوانية إذا وظفت بصورة جيدة . ملاحظة في محلها .. لكنها للأسف أتت متأخرة جدا، وتحمل في طياتها انتفاضة لنجدة الحكومة عبر مدخرات المغتربين، الذين ظلمتهم الأسعار الشحيحة التي ظلت تقدمها القرارات الاقتصادية الجائرة .. مقابلا لدولاراتهم وريالاتهم ودراهمهم التي بذلوا العمر وزهرته لأجل الحصول عليها . بصراحة، أتوجس كثيرا من التفاتة الحكومة تجاه المغتربين، بعد أن نسيتهم طوال عمرها، وهي التفاتة لن تؤدي إلا لهجمة استحلابية جديدة .. بعد أن أعيتها الحيلة في إنقاذ ما يمكن إنقاذه .. فلم تجد إلا التقليب في دفتر المغتربين القديم ! ما لا تعرفه الحكومة، أن المغتربين يشقون بما يحدث لأهليهم في السودان أكثر مما يشقى به أهلوهم، وأنهم منفعلون بما يحدث في السودان أكثر من انفعال وزير المالية وجهاز شؤون المغتربين، لكن السعي لابتزازهم، ومحاولة الالتفاف عليهم، لن تزيد مدخراتهم إلا هروبا، لأنهم قد لدغوا من الجحر، وهم، بأي حال، قادرون على (تدبير) أمورهم، بعد أن شربوا كأس التجاهل والاستحلاب حتى الثمالة ! كل المغتربين يلوكون الحسرة مما وجدوه من تجاهل، ورغم أنهم أصحاب أدوار وطنية رائدة، وكانوا وما زالوا عونا للوطن في كل المحن، لكن الالتفات الوطني لهم لم يتعد أبدا دور (الأخذ) دون العطاء، وآلاف المغتربين الذين عادوا لم يجدوا من الحكومة حتى كلمة (يديكم العافية)، فانضموا لجيوش العطالى والمعوزين، وانهارت مشاريعهم الصغيرة التي لم تجد أدنى دعم من كل الجهات المسؤولة، وعلى رأسها جهاز شؤون المغتربين . مدوا أيديكم للمغتربين، قبل أن تطالبوهم بمد أياديهم .. ولا تطالبوهم بأن يلدغوا من الجحر .. مرتين !